شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما يجوز من العمل في الصلاة

          ░10▒ بابُ: مَا يَجُوزُ مِنَ العَمَلِ في الصَّلَاةِ.
          فيهِ: عَائِشَةُ قَالَتْ: (كُنْتُ أَمُدُّ رِجْلِي في قِبْلَةِ النَّبيِّ(1) صلعم وَهُوَ يُصَلِّي، فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فَرَفَعْتُهُمَا، فَإِذَا قَامَ مَدَدْتُهَمَا). [خ¦1209]
          وفيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ: أنَّ النَّبيَّ(2) صلعم صَلَّى صَلَاةً فَقَالَ: (إِنَّ الشَّيطان عَرَضَ لِي، فَشَدَّ عَلَيَّ ِيَقْطَعُ الصَّلاةَ عَلَيَّ(3)، فَأَمْكَنَنِي اللهُ مِنْهُ فَذَعَتُّهُ، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أُوثِقَهُ إلى سَارِيَةٍ حتَّى تُصْبِحُوا وَتَنْظُرُوا(4) إِلَيْهِ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ سُلَيْمَانَ: {رَبِّ هَبْ لِي(5) مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي}[ص:35]فَرَدَّهُ اللهُ خَاسِئًا). [خ¦1210]
          استخفَّ جماعة العلماء العملَ اليسير في الصَّلاة، وأجمعوا أنَّ الكثير منه لا يجوز، إلَّا أنَّهم لم يَحُدُّوا القليل ولا الكثير، وإنَّما هو اجتهادٌ واحتياطٌ، وغَمْزُهُ ◙ رِجْلَ(6) عائشة في الصَّلَاة هو عملٌ يسيرٌ،(7) إلَّا أنَّ تكرير ذلك ربَّما أخرجه عن حَدِّ القليل.
          وأمَّا حديث الشَّيطان الَّذي عَرَضَ للنَّبيِّ صلعم في الصَّلَاة، فقد رواه عبد الرزَّاق مُفَسَّرًا، فقال(8): ((عَرَضَ لِي(9) فِي صُوْرَةِ هِرٍّ)) فهذا معنى قوله: (فَأَمْكَنَنِي اللهُ مِنْهُ) أي: صوَّره لي في صورة الهرِّ مُشَخَّصًا يمكنه أخذُه فأراد رَبْطَهُ، ففي هذا جوازُ العمل في الصَّلاة، ورَبْطُهُ إلى ساريةٍ عملٌ كثيرٌ قد همَّ به الرَّسُولُ صلعم ولا يهمُّ إلَّا بجائزٍ.
          ومما استخفَّ العلماء من(10) العمل في الصَّلاة أخذ البُرْغُوث والقَمْلَة(11)، ودفع المارِّ بين يدي المُصَلِّي(12)، والإشارة والالتفات الخفيف، والمشي الخفيف، وقتل الحيَّة والعَقْرَب، وهذا كلُّه إذا لم يقصد المُصَلِّي بذلك العَبَثَ في صلاته ولا التهاونَ بها، وممن أجاز أخذَ القَمْلَة في الصَّلاة وقتْلها الكوفيُّون والأوزاعي. وقال أبو يُوسُفَ: قد أساء، وصلاته تامَّة، وكره اللَّيث قتلها في المسجد، ولو قتلها لم يكن عليه شيءٌ، وقال مالكٌ: لا يقتلها في المسجد ولا يطرحها فيه، ولا يدفِنها في الصَّلاة.
          وقال الطَّحَاوِيُّ: لو حكَّ بدنه لم يُكره، كذلك أخذُ القَمْلَة وطرحها(13).
          ورخَّص في قتل العَقْرَب في الصَّلاة ابنُ عُمَر والحَسَنُ(14) والأوزاعيُّ، واختلف قول مالكٍ في ذلك، فمَرَّةً كرهه، ومَرَّةً أجازَه، وقال: لا بأس بقتلها إذا آذتُه(15) وخَفَّفَه، وكذلك الحيَّة والطَّير يرميه بحجر يتناوله مِن الأرض، فإن لم يُطِلْ ذلك لم تبطل صلاته.
          وأجاز قتل الحيَّة والعَقْرَب في الصَّلاة الكوفيُّون والشَّافعيُّ وأحمدُ وإِسْحَاقُ، وكره قتل العَقْرَب في الصَّلاة إبراهيمُ النَّخَعِيُّ(16)، وسُئِلَ مالكٌ عمَّن يمسك عنان فرسه في الصَّلاة، ولا يتمكَّن من وضع يديه بالأرض، قال: أرجو أن يكون خفيفًا، ولا يتعمَّد ذلك.
          وروى عليُّ بنُ زيادٍ عن مالكٍ في المُصَلِّي يخاف على صبيٍّ بقرب نارٍ فذهب يُنَحِّيه(17) قال: إن انحرف عن القِبْلَة ابتدأ، وإن لم ينحرف بَنَى. وسُئِلَ أحمدُ بنُ حَنْبَلٍ عن رَجُلٍ أمامَه(18) سترةٌ(19) فسقطت، / فأخذها فأركزها، قال: أرجو ألَّا يكون به بأس. فذُكِرَ له عن ابنِ المباركِ أنَّه أمر رجُلًا صَنَعَ ذلك بالإعادة، قال: لا آمره بالإعادة، وأرجو أن يكون خفيفًا. وأجاز مالكٌ والشَّافعيُّ حمل الصَّبيِّ في الصَّلاة المكتوبة، وهو قول أبي ثَوْرٍ.
          قال الخَطَّابِيُّ: وقوله: (فَذَعَتُّهُ) رواه جماعةٌ بالدَّال من الدَّعِّ الَّذي هو الدَّفع من قوله ╡: {يَدُعُّ اليَتِيمَ}[الماعون:2]والأصل في دَعَّ(20) دَعَعَ، فإذا أسندت الفعل(21) إلى نفسك قلت: دَعَعْتُهُ، فإن قلت: دَعَتُّهُ منه(22) لم يجزْ في العربيَّة لأنَّه لا يجوز في العربيَّة(23) أن تُدغَم العين في التَّاء، وإنَّما يُدغَم الحرف في مثله أو فيما قارب مخرجُهُ مخرجَهُ، فبطل بذلك أن يكون بالدَّال.
          قال الخَطَّابيُّ(24): والصَّوَاب فيه ما حدَّثنا الحَمَّامِيُّ(25) عن النَّسَفِيِّ، عن البخاريِّ (فَذَعَتُّهُ) بالذَّال، وحُكِيَ عن ثَعْلَبٍ عن الأَصْمَعيِّ قال(26): الذَّعْتُ الخنق، قالا: والذَّعْتُ أيضًا: أن تُمَعِّكَ(27) الرِّجُل في التُّراب، فإذا أسندت الفعل من ذَعَتُّ إليك قلت: ذَعَتُّهُ، أَذْعَتُّهُ، وكان الأصل ذعتتهُ، فأُدغمت لام الفعل التي هي تاء(28) المتكلِّم كما تقول مَتَتَهُ وسَبَتَهُ من قولك: مَتَّ الحَبْل، بمعنى مَدَّ، وسَبَتَ رَأَسَهُ: حَلَقَهُ، وسَبَتَ شَعْرَهُ: أَرْسَلَهُ.


[1] في (ص): ((الرسول)).
[2] في (ص): ((الرسول)).
[3] قوله: ((علي)) ليس في (م).
[4] في (م): ((فتنظروا)). في (ص): ((تنظروا)).
[5] في (م): ((ربِّ اغفر لي وهب لي)).
[6] في (م): ((رجلي)).
[7] في (م): ((هو من العمل اليسر)).
[8] في (م): ((وقال)).
[9] زاد في (م): ((الشَّيطان)).
[10] قوله: ((من)) ليس في (ص).
[11] في (م): ((والنَّملة)).
[12] في (م): ((المار بين يديه)).
[13] قوله: ((وقال مالك: لا يقتلها في المسجد ولا يطرحها فيه، ولا يدفنها في الصَّلاة. وقال الطَّحَاوي: لو حكَّ بدنه لم يكره، كذلك أخذ القملة وطرحها)) ليس في (م).
[14] زاد في (م): ((البصري)).
[15] في (م): ((أرادته)).
[16] في (ص): ((والنخعي)).
[17] في (م): ((فيذهب فينحيه)).
[18] في (م): ((عن رجلٍ أحرم وأمامه)).
[19] في (م): ((سترة)) غير واضحة.
[20] في (ص): ((والأصل ودع)).
[21] زاد في (م): ((منه)).
[22] قوله: ((منه)) ليس في المطبوع.
[23] قوله: ((في العربية)) ليس في (م).
[24] قوله: ((قال الخطابي)) ليس في (ص).
[25] في (م): ((حدَّثنا به الخيَّام))، وفي المطبوع: ((حدَّثني الخيَّام)).
[26] في (م): ((ثعلب والأصمعي قالا)).
[27] في (ص): ((تمتعك)).
[28] زاد في (م): ((في ياء)). في (ص) صورتها: ((فاء)).