شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما يجوز من التسبيح والحمد في الصلاة للرجال

          ░3▒ بابُ: مَا يَجُوزُ مِنَ التَّسْبِيحِ والحَمْدِ في الصَّلاة لِلرِّجَالِ(1).
          فيهِ: سَهْلُ بنُ سَعْدٍ، قَالَ: (خَرَجَ النَّبيُّ صلعم يُصْلِحُ بَيْنَ بَنِي عَمْرِو بنِ عَوْفِ، وَحَانَتِ الصَّلاة، فَجَاءَ بِلالٌ أبا بَكْرٍ، فقَالَ(2): حُبِسَ النَّبيُّ صلعم فَتَؤُمُّ(3) النَّاسَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِنْ شِئْتُمْ. فَأَقَامَ بِلالٌ الصَّلَاةَ، فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَصَلَّى، فَجَاءَ النَّبيُّ صلعم يَمْشِي في الصُّفُوفِ يَشُقُّهَا شَقًّا، حتَّى قَامَ في الصَّفِّ الأوَّلِ، فَأَخَذَ النَّاسُ في التَّصْفِيحِ(4)، فَقَالَ سَهْلٌ: هَلْ تَدْرُونَ مَا التَّصْفِيحُ؟ قَالَ: هُوَ التَّصْفِيقُ(5)، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ ☺ لا يَلْتَفِتُ في صَلاتِهِ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا الْتَفَتَ، فَإِذَا النَّبيُّ صلعم في الصَّفِّ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ: مَكَانَكَ، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَيْهِ فَحَمِدَ اللهَ، ثمَّ رَجَعَ(6) القَهْقَرَى وَرَاءَهُ، فَتَقَدَّمَ(7) النَّبيُّ صلعم فَصَلَّى). [خ¦1201]
          قال المُهَلَّبُ: فيه من الفِقْه أنَّ الصَّلاة لا يجب تأخيرها عن وقتها المختار، وإن غاب الإمام الفاضل(8).
          وفيهِ: أنَّه لا يجب لأَحَدٍ أن يتقدَّم جماعةً لصلاةٍ ولا غيرها إلَّا عن رضا الجماعة، لقول أبي بَكْرٍ: نعم إن شئتم، وهو يعلم أنَّه أفضلهم بعد رَسُولِ اللهِ صلعم.
          وفيهِ: أنَّ الإقامة إلى المُؤَذِّنِ وهو(9) أولى بها، وقد اختُلِفَ في ذلك(10)، فقال بَعْضُهم(11): من أَذَّنَ فهو يُقِيْمُ، وقال مالكٌ والكوفيُّون: لا بأس بأذان المُؤَذِّنِ وإقامة غيره. والَّذي ترجم له البخاريُّ فهو محذوفٌ(12) في هذا الحديث(13)، وقد تقدَّم في أبواب الإمامة في حديث سَهْلٍ هذا [خ¦684]، وهو أيضًا في باب رفع الأيدي في الصَّلاة لأمرٍ ينزل به بعد هذا [خ¦1218].
          وقوله صلعم(14): ((مَا لِي أَرَاكُمْ(15) أَكْثَرْتُمُ التَّصْفِيْقَ؟! مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ في صَلَاتِهِ فَلْيُسَبِّحْ(16)، فَإِنَّهُ إِذَا سَبَّحَ التُفِتَ إِلَيهِ))، ففي(17) هذا الباب(18) أنَّ التَّسبِيْحَ جائزٌ للرِّجال والنِّساء عندما ينزل بهم من حاجةٍ تنوبهم، ألا ترى أنَّ النَّاس أكثروا بالتَّصفيق(19) لأبي بَكْرٍ ليتأخَّر للنَّبيِّ صلعم وبهذا قال مالكٌ والشَّافعيُّ: أنَّ من سبَّح في صلاته لشيءٍ ينوبُه، أو أشار إلى إنسانٍ، فإنَّه لا تقطع صلاته. وخالف في(20) ذلك أبو حَنِيْفَةَ، فقال: إنْ سبَّح أو حمد الله جوابًا لإنسان فهو كلامٌ، وإن كان منه ابتداءً لم يقطع(21)، وإن وطِئ على حصاةٍ، أو لسعَه(22) عقربٌ، فقال: بسم الله، أراد بذلك الوجع فهو كلامٌ. وقال أبو يُوسَفَ في الأمرين: ليس بكلام.
          وقول أبي حَنِيْفَةَ مخالفٌ للحديث، لأنَّ النَّبيَّ(23) صلعم، قالَ: ((إِذَا(24) سَبَّحَ التُفِتَ إِلَيهِ))، وفَهِمَ الصَّحَابَة(25)♥ من هذا أنَّهم إذا سبَّحوا بالإمام(26) ولم يفهم عنهم أن(27) يكثروا ذلك حتَّى يفهم، ألا ترى أنَّهم أكثروا التَّصفيق حتَّى التفت أبو بَكْرٍ ☺، ولو لم يكن التَّسبيح على نيَّة إعلام السَّاهي ما رَدَّدُوه حتَّى فهم.
          وقد بَيِّنَ النَّبيُّ(28) صلعم أنَّ الالتفات في الصَّلاة(29) إنَّما يكون من أجل التَّسبيح، فهو مقصودٌ بذلك.
          وفيهِ: أنَّ الالتفات في الصَّلاة(30) لا يقطعها. وفيه: أنَّه لا بأس بتخلُّل الصُّفُوف والمشي إلى الصَّف الأوَّل بمن(31) يليق به الصَّلاة فيه، لأنَّ شأن الصَّفِّ الأوَّل أن يقوم فيه أفضل النَّاس(32) علمًا ودينًا، لقوله صلعم: ((لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ ذَوُو الأَحْلَامِ والنُّهَى))، يعني _والله أعلم_ ليحفظوا عنه ويَعُوا ما كان منه في صلاته صلعم، وكذلك يصلُح أن يقوم(33) في الصَّفِّ الأوَّل من يصلُح أن يُلَقِّن الإمام ما تَعَامَى عليه(34) من القراءة، ومن يصلُح للاستخلاف في الصَّلاة، وقد تقدَّم كثيرٌ من معاني / هذا الحديث في أبواب الإمامة، فأغنى عن إعادته(35) [خ¦658].
          وفيهِ: دليلٌ على جواز الفتح على الإمام وتلقينه إذا أخطأ، وقد اختلف العلماء في ذلك فأجازه الأكثر، وممن أجازه: عليٌّ وعثْمَانُ(36) وابنُ عُمَرَ، ورُوِيَ عن عَطَاءٍ والحَسَنَ وابنِ سِيرِين، وهو قول مالكٍ وأبي يُوسُفَ والشَّافعيِّ وأحمدَ وإِسْحَاقَ. وكرهته(37) طائفةٌ، رُوِيَ ذلك عن ابنِ مَسْعُودٍ والشَّعْبِيِّ والنَّخَعِيِّ، وكانوا يرونه بمنزلة الكلام، وهو قول الثَّوْرِيِّ والكوفيين، ورُوِيَ عن أبي حَنِيْفَةَ: إن كان التَّسبيح جوابًا قَطَعَ الصَّلاة، وإن كان من مُرُور إنسانٍ بين يديه لم يقطع، وقال أبو يُوسُفَ: لا يقطع وإن كان جوابًا. واعتلَّ من كرهه، فقالوا: التَّلقين كلامٌ لا قراءةٌ للقرآن، والقول الأوَّل أولى، لأنَّه إذا جاز التَّسبيح جازت التِّلاوة، لأنَّه لو قرأ شيئًا من القرآن غير قاصد تلقين أَحَدٍ لم تفسد بذلك صلاته عند الجميع، فإذا كان كذلك لم يغيِّر ذلك معناه، قصد به تلقين إمامه أو غيره، كما لو قرأ ما أُمِرَ بقراءته في صلاته وعمد بها إسماع من بحضرته ليتعلَّمه لم تفسد بذلك صلاته، قاله الطَّبَريُّ.
          وقال(38) الطَّحَاويُّ: لما(39) كان التَّسبيح لما ينوبه في صلاته مباحًا، ففتحه على الإمام أحرى أن يكون مباحًا، وقال أبو عليٍّ البغداديُّ: صَفَّحَ الرَّجُل تصفيحًا: مثل صَفَّقَ.


[1] زاد في (م): ((والنِّساء)).
[2] في (ي): ((لأبي بكر فقال))، وفي المطبوع و(ص): ((بلال لأبي بكرٍ قال)).
[3] في (ي): ((فيأم)).
[4] في (ي): ((بالتَّصفيح)).
[5] في (م): ((فأخذ النَّاس بالتَّصفيح، قال سَهْل هو التَّصفيق)).
[6] في (م): ((ورجع)). في (ص): ((فرجع)).
[7] في (م): ((وتقدَّم)).
[8] زاد في (م): ((فإنَّ مبادرتهم واستخلافهم أولى من انتظار الإمام الفاضل)).
[9] في (م): ((هو)).
[10] في المطبوع و(ص): ((فيها)).
[11] في (م): ((فقال بعض العلماء)).
[12] في (ص): ((محذور)).
[13] في (م): ((والمعنى الَّذي ترجم به البخاري هو محذوف في هذا الحديث)).
[14] في (م): ((وهو قوله ◙)).
[15] في (م): ((رأيتكم)).
[16] قوله: ((فليسبح)) ليس في (ص).
[17] في (ي): ((وفي)).
[18] قوله: ((الباب)) ليس في (م) و(ي) و(ص).
[19] قوله: ((بالتَّصفيق)) ليس في (م).
[20] قوله: ((في)) ليس في (م).
[21] زاد في (م): ((قال)).
[22] في (م): ((لسعته)).
[23] في (ص): ((الرسول)).
[24] في (م): ((فإذا)).
[25] في (ي): ((البخاري)).
[26] في المطبوع: ((للإمام)).
[27] في (م): ((أنَّهم)).
[28] في (ص): ((الرسول)).
[29] قوله: ((في الصَّلاة)) ليس في (م).
[30] قوله: ((إنَّما يكون من أجل التَّسبيح، فهو مقصودٌ بذلك. وفيهِ: أنَّ الالتفات في الصَّلاة)) ليس في (ص).
[31] في (م): ((من))، وفي المطبوع و(ص): ((لمن)).
[32] في (م): ((القوم)).
[33] في (ص): ((يكون)).
[34] في (م): ((ما تعايا فيه)).
[35] في (م): ((عن ذكر أمره)).
[36] في (م) و(ي): ((أجازه عُثْمَانُ وعليٌّ)).
[37] في (م) و(ص): ((وكرهه)).
[38] في (ص): ((وقاله)).
[39] في المطبوع و(ص): ((ولما)).