شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: إذا دعت الأم ولدها في الصلاة

          ░7▒ بَابُ: إِذَا دَعَتِ الأمُّ وَلَدَهَا في الصَّلاةِ.
          وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ عَنْ عَبْدِ الرَّحمنِ بنِ هُرْمُزَ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: (نَادَتِ امْرَأَةٌ ابْنَهَا وَهُوَ في صَوْمَعَتِهِ قَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، قَالَ: اللَّهُمَّ أُمِّي وَصَلَاتِي فَقَالَتْ: يا جُرَيْجُ، قَالَ اللَّهُمَّ أُمِّي وَصَلَاتي ثلاثًا, قَالَتْ: اللَّهُمَّ لا يَمُوتُ جُرَيْجٌ(1) حتَّى يَنْظُرَ في وُجُوهِ المَيَامِيْسِ، وَكَانَتْ تَأْوِي إلى صَوْمَعَتِهِ رَاعِيَةٌ تَرْعَى الغَنَمَ، فَقِيلَ لَهَا: مِمَّنْ هَذَا الوَلَدُ؟ قَالَتْ: مِنْ جُرَيْجٍ، قَالَ جُرَيْجٌ: أَيْنَ هَذِهِ الَّتِي تَزْعُمُ أَنَّ وَلَدَهَا لِي؟ قَالَ: يَا بَابُوْسُ مَنْ أَبُوكَ؟ قَالَ: الرَّاعِي). [خ¦1206]
          البَابُوسُ: الصَّبِيُّ الرَّضِيعُ بالفَارِسِيَّةِ.
          قال المُؤَلِّفُ: هذا الحديث دليلٌ أنَّه لم يكن الكلام في الصَّلاة ممنوعًا في شريعة جُرَيْج، فلمَّا لم يأتِ من إجابتها بما هو مُبَاحٌ له، استُجيبت(2) دعوة أمِّه فيه، وقد كان الكلام في شريعتنا جائزًا في الصَّلاة(3) إلى أن نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}[البقرة:238].
          وذكر البخاريُّ عن أبي سَعِيدِ بنِ المُعَلَّى، قال: كُنْتُ أُصَلِّي في المسجدِ، فدَعَانِي النَّبيُّ صلعم فلمْ أُجِبْهُ، فقُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ، كُنْتُ أُصَلِّي قالَ: (أَلَم يَقُلِ اللهَ: {اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}[الأنفال:24])، الحديث.
          ولا يجوز أن يُوَبِّخَهُ النَّبيُّ(4) صلعم على ترك الاستجابة إلَّا وقت إباحة الكلام(5) في الصَّلاة، فلمَّا نُسِخَ ذلك لم يَجُزْ للمُصَلِّي إذا دعته أمُّه(6)، أو غيرها أن يقطع صلاته، لقوله صلعم: / ((لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوْقٍ في مَعْصِيَةِ الخَالِقِ)). وحقُّ اللهِ ╡ الَّذي شُرِعَ فيه ألزم من حقِّ الأبوين حتَّى يفرغ منه، لكن العلماء يستحبُّون له أن يُخَفِّفَ صلاته ويُجِيْبَ أبويه(7).
          وقد رُوِيَ عن النَّبيِّ(8) صلعم حديثٌ مرسلٌ يُخَالِفُ(9) هذا رواه ابنُ أبي شَيْبَةَ عن حَفْصِ بنِ غياثٍ، عن ابنِ أبي ذئبٍ عن مُحَمَّدِ بنِ المُنْكَدِرِ عن النَّبيِّ صلعم قال: ((إِذَا دَعَتْكَ أُمُّكَ في الصَّلَاةِ فَأَجِبْهَا، وإِذَا دَعَاكَ أَبُوكَ فَلَا تُجِبْهُ))، وقال به مَكْحُولٌ، رواه الأوزاعيُّ عنه، وقال العَوَّامُ: سألت مجاهدًا عن الرَّجُل تُقَامُ عليه الصَّلاة وتدعوه أمُّه أو والده، قال: يُجِيْبُهما(10). وفي كتاب «البِرُّ والصِّلَة» عن الحَسَنِ في الرَّجُل(11) تقول له أمُّه: أفطر، قال: يفطر وليس عليه قضاءٌ، وله أجر الصَّوم والبِرِّ، وإذا قالت له: لا تخرج إلى الصَّلاة، فليس لها في هذا طاعةٌ، هذه فريضةٌ.
          فدلَّ هذا أنَّ قياس قوله إذا دعته في الصَّلاة أن(12) لا يجيبها، وأمَّا مرسل ابنِ المُنْكَدِرِ فالفقهاء على خلافه، ولا أعلم به قائلًا غير مَكْحُوْلٍ(13)، ويحتمل أن يكون معناه إذا دعته أمُّه فليجبها، يعني بالتَّسبيح وبما أُبِيْحَ للمُصَلِّي الاستجابة به، كما ذكر ابنُ حَبِيْبٍ(14) قال: من أتاه أبوه ليكلِّمه وهو في نافلة فلْيُخَفِّفْ، ويُسَلِّمْ(15) ويُكَلِّمْهُ، وإذا(16) نادته أمُّه فليبتدرها بالتَّسبيح، ولْيُخَفِّفْ ولْيُسَلِّمْ.(17)
          وأمَّا قول مجاهدٍ: إذا أُقيمت عليه الصَّلاة ودعاه أبوه أو أمُّه فلْيُجِبْهما، فيحتمل أن يكون أمره بإجابتهما إذا كان الوقت واسعًا(18) ولم يدخل في الصَّلاة، فتجتمع(19) له إجابة(20) أبويه وقضاء الصَّلاة في وقتها.
          وقال(21) المُهَلَّبُ: وفي(22) حديث أبي هريرةَ دليلٌ أنَّه من أخذ بالشِّدة(23) في أمور العبادات كان أفضل إذا علم من نفسه قوَّةً على ذلك، لأنَّ جُرَيجًا رعى(24) حقَّ الله في التزام الخُشُوع له في صلاته، وفضَّله على الاستجابة لأمِّه، فعاقبه الله على ما ترك من الاستجابة لها بما ابتلاه به من دعوى(25) المرأة عليه، ثمَّ أراه فضل ما آثره به مِن(26) مناجاته(27) ربَّه، والتزام الخُشُوع له(28)، أن جعل له آيةً معجزةً في كلام الطِّفل، فخلَّصه(29) بها من محنة دعوة أمِّه عليه.
          وفي هذا الحديث إجابة دعوة الوالدة في السَّرَّاء والضَّرَّاء.
          وقوله: (اللَّهُمَّ أُمِّي وَصَلَاتِي) إنَّما سأل(30) أن يُلْقِيَ في قلبه الأفضل، ويحمله على أولى الأمرين به(31)، فحمله على التزام مراعاة حقِّ الله تعالى على حقِّ أمِّه، وقد يمكن أن يكون جُرَيجٌ نبيًّا، لأنَّه كان في زمنٍ يمكن فيه النُّبوَّة.
          فإن قال قائلٌ: يحتمل أن يكون حديث أبي(32) سَعِيدِ بنِ المُعَلَّى قبل تحريم الكلام في الصَّلاة كما قلت، فكيف جاز(33) له ترك مجاوبة النَّبيِّ صلعم إذا(34) كان الكلام مباحًا؟ قيل: يمكن أن يتأوَّل أبو سَعِيدٍ قوله: {اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ(35)}[الأنفال:24]إذا كنتم في غير الصَّلاة(36)، فعذره النَّبيُّ صلعم بذلك حين رأى التزام السُّكُوت في الصَّلاة تعظيمًا لشأنها، كما تأوَّل أصحاب النَّبيِّ(37) صلعم يوم الحُدَيبية حين أمرهم بالحلاق ألَّا يحلقوا لَمَّا لَمْ يبلغ الهديُ محلَّه.
          فإن قيل: فيُحتمل أن يدعوه النَّبيُّ صلعم(38) وقت تحريم الكلام في الصَّلاة، قيل: نعم، يُحتمل ذلك وتكون استجابته له بالتَّسبيح فيوجز(39) في صلاته، فتجتمع(40) طاعة الله بإتمام الصَّلاة، وطاعة النِّبيِّ(41) صلعم بالاستجابة له. وأظهر التَّأويلين أن يدعوه النَّبيُّ صلعم وقت إباحة الكلام في الصَّلاة، وقد احتَجَّ قومٌ من أهل الظَّاهر بحديث أبي سَعِيدِ بنِ المُعَلَّى، وزعموا أنَّ كلام النَّبيِّ(42) صلعم يوم ذِي اليدين خُصُوص له، وقالوا: لا يجوز لأَحَدٍ أن يفعل ذلك بعد النَّبيِّ صلعم لأنَّ الله تعالى قال: {اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ(43)}[الأنفال:24]فلا يتكلَّم أحدٌ(44) ولا يجيب غير الرَّسُول، ولا حُجَّة لهم فيه، لأنَّ قوله تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَلِلرَّسُوْلِ}[الأنفال:24]معناه(45) بما يستجيب به المُصَلِّي من قول(46): سبحان الله، وإشارة(47) تُفْهَمُ عنه كما كان النَّبيُّ صلعم يَرُدُّ السَّلام على الأنصار بالإشارة(48) حين دخلوا عليه في مسجد قُبَاءٍ وهو يُصَلِّي، وكذلك قال صلعم(49): ((مَنْ نَابَه شَيْءٌ في صَلَاتِهِ فَلْيُسَبِّحْ)).
          وقال(50) ابنُ السِّكِّيت: المُومِسُ(51): البَغِي، قال أبو عُبَيْدٍ: وهي المُوْمِسَة أيضًا.


[1] قوله: ((جريج)) ليس في (ص).
[2] في (ص): ((استجيب)).
[3] قوله: ((في الصلاة)) ليس في (ص).
[4] قوله: ((النبي)) ليس في (ص).
[5] ما بين معقوفتين ليس في (م).
[6] في (م): ((إذا دعاه أم)).
[7] قوله: ((ويجيب أبويه)) ليس في (م).
[8] في (ص): ((الرسول)).
[9] في (م): ((بخلاف)).
[10] في (م): ((ليجبهما)).
[11] قوله: ((في الرجل)) ليس في (ص).
[12] قوله: ((أن)) ليس في المطبوع و(ص).
[13] في (م): ((إلَّا مكحولًا)).
[14] زاد في (م): ((في الواضحة)).
[15] في (م) و (ي) و(ص): ((وليسلم)).
[16] في (م): ((وكذلك إن)).
[17] في (م): ((ويسلم))، وقوله: ((ويكلمه، وإذا نادته أمُّه فليبتدرها بالتَّسبيح، وليخفف وليسلم)) ليس في (ي).
[18] في المطبوع و(ص): ((متَّسعًا)).
[19] صورتها في (ز): ((مجتمع)).
[20] في (م): ((فتجمع إجابة)).
[21] في (م): ((قال)).
[22] في (ي): ((في)).
[23] زاد في (م): ((على نفسه)).
[24] في (م): ((راعى)).
[25] في المطبوع و(ص): ((دعوة)).
[26] في (م): ((آثر من))، وفي (ز): ((آثره من)) وأشار إلى حاشية بينهما، والحاشية مطموسة.
[27] في (م) و(ص): ((مناجاة)).
[28] قوله: ((له)) ليس في (م).
[29] في (م): ((يخلصه)).
[30] في (م): ((سأل الله))، وفي المطبوع و(ص): ((سأله)).
[31] في (م): ((على ما هو أولى الأمرين له)).
[32] قوله: ((أبي)) ليس في (ص).
[33] في (ص): ((كان)).
[34] في (ص): ((إذ)).
[35] قوله: ((إذا دعاكم)) ليس في (م)، وزاد في (ي) و(ص): ((لما يحييكم)).
[36] في (م): ((صلاة)).
[37] في (ص): ((الرسول)).
[38] في (ص): ((يدعوه الرسول في)).
[39] في (م): ((ليوجز)).
[40] في (م): ((فتجمع)).
[41] في (ص): ((الرسول)).
[42] في (ص): ((الرسول)).
[43] زاد في المطبوع: ((لما يحييكم)).
[44] زاد في (م): ((في الصَّلاة)).
[45] قوله: ((معناه)) ليس في (ص).
[46] في (م): ((من قول الله))، وفي المطبوع و(ص): ((من قوله)).
[47] في (م): ((أو إشارة)).
[48] في المطبوع و(ص): ((إشارة)).
[49] في المطبوع و(ص): ((وكذلك قوله)).
[50] في المطبوع و(ص): ((قال)). قوله: ((قال)) ليس في (م).
[51] في (م) و(ص): ((المومسة)).