شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما ينهى عنه من الكلام في الصلاة

          ░2▒ بابُ: مَا يُنْهَى عَنْهُ مِنَ الكَلامِ في الصَّلاةِ.
          فيهِ: عَبْدُ اللهِ، قَالَ(1): (كُنَّا نُسَلِّمُ على النَّبيِّ صلعم وَهُوَ في الصَّلَاةِ، فَيَرُدُّ عَلَيْنَا، فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ، سَلَّمْنَا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْنَا، وَقَالَ: إِنَّ في الصَّلاة شُغْلًا). [خ¦1199]
          وقال: زَيْدُ بنُ أَرْقَمَ: إِنْ كُنَّا لَنَتَكَلَّمُ في الصَّلاةِ عَلَى عَهْدِ النَّبيِّ صلعم يُكَلِّمُ أَحَدُنَا صَاحِبَهُ بِحَاجَتِهِ حتَّى نَزَلَتْ: {حَافِظُواْ على الصَّلَوَات والصَّلاة الوُسْطَى(2)} الآية(3)[البقرة:238]، فَأُمِرْنَا(4) بِالسُّكُوتِ. [خ¦1200]
          قال المُهَلَّبُ: المُصَلِّي مُنَاجٍ لرَبِّه، فواجبٌ عليه ألَّا يقطعَ مناجاته بكلامٍ مخلوقٍ، وأن يُقْبِلَ على رَبِّه، ويلتزم الخُشُوع، ويُعرض عمَّا سوى ذلك، ألا ترى قوله صلعم: (إِنَّ في الصَّلَاةِ شُغْلًا).
          وقوله: {وَقُومُوا لِلّهِ قَانِتِينَ}[البقرة:238]والقُنُوت في هذه الآية الطَّاعة والخُشُوع لله ╡، فينبغي ترك الكلام المُنَافِي للخُشُوع، إلَّا أن يكون الكلام في إصلاح الصَّلاة، فإنَّه من الخُشُوع، لأنَّه في تصحيح ما هو فيه مِن أمر صلاته.
          وقد أجاز الكلام في الصَّلاة عمدًا وسهوًا لمصلحتها طائفةٌ، منهم مالكٌ والأوزاعيُّ، ومَنَعَ ذلك الكوفيُّون وزَعَمَوا أنَّ حديث ابنِ مَسْعُودٍ وزيدِ بنِ أَرْقَمَ ناسخٌ(5) لقصَّة ذي اليدين، وسأذكر اختلاف أهل العلم في ذلك عند ذكر قصَّة ذي اليدين بعد هذا إن شاء الله [خ¦1229]، ونذكر هاهنا طَرَفًا من ذلك في(6) ردِّ قول الكوفيين، وذلك أنَّ الآثارَ تواترت عن ابنِ مَسْعُودٍ، أنَّ قُدُومَه مِن الحَبَشَة على النَّبيِّ صلعم حين لم يَرُدَّ النَّبيُّ صلعم السَّلامَ، وقال له: (إِنَّ في الصَّلَاةِ شُغْلًا)، كان بمكَّة، وإسلام أبي هريرة كان بالمدينة عام خَيْبَرَ، فكيف ينسخ الأوَّل الآخر، هذا محالٌ!
          فإن قالوا: فحديث(7) زيدِ(8) بنِ أَرْقَمَ ناسخٌ لحديث أبي هريرة في قصَّة ذِي اليدين، لأنَّ زيدًا كان من الأنصار ولم يصحبِ(9) النَّبيَّ صلعم إلَّا بالمدينة، وسورة البقرة / مدنيَّةٌ.
          قيل: لا تاريخ عندنا لأيِّ حديث كان(10) منهما قبل صاحبه، غير أنَّ زيدًا أقدم إسلامًا(11) من أبي هريرةَ، وأبو هريرةَ أسلم عام خَيْبَرَ، وصحبَ النَّبيَّ صلعم خمسة أعوامٍ، وإذا لم يُعْلَمْ أيُّهما قبل صاحبه، لم يُقْضَ بالنَّسخ لواحد منهما(12)، ويُحتمل أن يكون معنى قول زيدِ بنِ أَرْقَمَ: (فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ)، يعني(13) إلَّا بما(14) كان مِن(15) الكلام في مصلحة الصَّلاة، فهو غير داخل في النَّهي عن الكلام في الصَّلاة، ليُوَافِقَ(16) حديث أبي هريرةَ، فلا(17) يُعَارِضَ واحد منهما صاحبه. ودلَّ حديث زيد على النَّوع المنهي عنه مِن الكلام في الصَّلاة، وهو قوله: (كُنَّا نَتَكَلَّمُ في الصَّلاةِ، يُكَلِّمُ أَحَدُنَا صَاحِبَهُ بِحَاجَتِهِ)، والأمَّة مجمعةٌ على تحريم هذا النَّوع من الكلام في الصَّلاة، و على مثل ذلك دلَّ حديث ابنِ مَسْعُودٍ أنَّهم كانوا يُسَلِّمُ بعضهم على بعض في الصَّلاة، فلمَّا قدموا مِن الحبشة لم يَرُدَّ النَّبيُّ صلعم(18) عليهم، وقال: (إِنَّ في الصَّلَاةِ شُغْلًا) فبان في الحديثين النَّوع المنهي عنه مِن الكلام في الصَّلاة، وهو ما ليس من أمر الصَّلاة، وثبت بحديث ذِي اليدين جواز الكلام في الصَّلاة لمصلحتها، وهذا التَّأويل أولى لئلَّا تتضادَّ الأحاديث، والله الموفق.


[1] قوله: ((قال)) ليس في (م).
[2] زاد في (ص): ((وقوموا لله قانتين)).
[3] في (م): ((حافظوا على الصَّلَوَات. الآية))، قوله: ((الآية)) ليس في المطبوع و(ص).
[4] في (ص): ((أمرنا)).
[5] في (م): ((ناسخان)).
[6] في (م): ((ونذكر ههنا جملة في)).
[7] في (ص): ((حديث)).
[8] قوله: ((زيد)) ليس في المطبوع و(ص).
[9] في (م): ((يصحبه)).
[10] قوله: ((كان)) ليس في (م).
[11] في (م): ((إسلام)).
[12] قوله: ((منها)) ليس في (ص).
[13] قوله: ((يعني)) ليس في (م).
[14] في (م) و(ص): ((ما)).
[15] زاد في المطبوع و(ص): ((أمر)).
[16] في (م): ((ليتفق مع)).
[17] في (م): ((ولا)).
[18] في (ص): ((لم يرد ◙)).