شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما يجوز من الاشتراط والثنيا في الإقرار

          ░18▒ باب: مَا يَجُوزُ مِنَ الاشْتِرَاطِ(1) وَالثُّنْيَا في الإقْرَارِ وَالشُّرُوطِ التي يَتَعَارَفُهَا(2) النَّاسُ بَيْنَهُمْ وَإِذَا قَالَ: مِائَةٌ إِلَّا وَاحِدٍ أَو اثِنيْنِ.
          وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ رَجُلٌ لِكَرِيِّهِ: أَرْحِلْ رِكَابَكَ، فَإِنْ لَمْ أَرْحَلْ مَعَكَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا فَلَكَ / مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَلَمْ يَخْرُجْ قَالَ شُرَيْحٌ: مَنْ شَرَطَ على نَفْسِهِ شَرْطًا غَيْرَ مُكْرَهٍ فَهُوَ عَلَيْهِ، وَقَالَ أَيُّوبُ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: إِنَّ رَجُلًا بَاعَ طَعَامًا وَقَالَ إِنْ لَمْ آتِكَ الأرْبِعَاءَ فَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بَيْعٌ فَلَمْ يَجِئْ فَقَالَ شُرَيْحٌ لِلْمُشْتَرِي: أَنْتَ أَخْلَفْتَ فَقَضَى عَلَيْهِ.
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبيَّ صلعم قَالَ: (إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةً إِلَّا وَاحِدةً(3) مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ). [خ¦2736]
          الاستثناء على ضربين: استثناء القليل من الكثير، وهذا ما لا خلاف في جوازه بين أهل الفقه واللغة، والضرب الثاني: استثناء الكثير من القليل وهو جائزٌ عند أصحاب مالكٍ والكوفيِّين والشافعيِّ وغيرهم(4) من الفقهاء، وهو مذهب اللغويِّين من أهل الكوفة، وأنشد الفرَّاء في ذلك:
أدُّوا التي نقصت تِسعينَ مِنْ مِائةٍ                     ثُمَّ ابعَثُوا حَكمًا بالعدل حكَّامًا
          فاستثنى تسعين من مائةٍ، فكذا إذا أقرَّ الرجل فقال: لفلانٍ عندي ألفٌ إلَّا تسعمائة وخمسين لزمه خمسون. أو قال: له عندي مائةٌ إلَّا تسعين. فهو جائزٌ على ما أنشد الفرَّاء، واحتجَّ(5) ابن القصَّار فقال: حجَّة من أجازه أنَّ حقيقة الاستثناء هو إخراج بعض ما اشتمل عليه اللفظ؛ فإنَّ جميع ما يقتضيه اللفظ ليس بمرادٍ، فإذا كان الاستثناء هذا معناه فقد يكون المراد إخراج الأقلِّ، وقد يكون إخراج الأكثر، وإذا(6) جاز إخراج الأقلِّ جاز إخراج الأكثر.
          وقال عبد الملك بن الماجِشون: لا يجوز استثناء الكثير من القليل. وحكى أنَّه مذهب البصريِّين من أهل اللغة. وإلى هذا ذهب البخاريُّ في هذا الباب، ولذلك أدخل قوله صلعم: (إِنَّ للهِ تِسعَةً وَتِسعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلَّا وَاحِدَةً) فاستثنى القليل من الكثير.
          واحتجَّ ابن قتيبة لذلك فقال: لا يجوز عندي في اللغة استثناء الكثير من القليل؛ لأنَّ تأسيس الاستثناء على تدارك قليلٍ من كثيرٍ كأنَّك أغفلته أو نسيته لقلَّته، ثمَّ تداركت بالاستثناء؛ ولأنَّ الشيء قد ينقص نقصانًا يسيرًا فلا يزول عنه اسم الشيء بنقصان القليل، فإذا نقص أكثره زال عنه الاسم، ألا ترى أنَّك لو قلت: صمت هذا الشهر إلَّا تسعةً وعشرين يومًا. أحال لأنَّه صام يومًا، واليوم لا يسمَّى شهرًا، وممَّا يزيد في وضوح هذا أنَّه يجوز لك أن تقول: صمت الشهر كلَّه إلَّا يومًا واحدًا. فتؤكِّد الشهر وتستقصي عدده بكلٍّ، ولا يجوز: صمت الشهر كلَّه إلَّا تسعةً وعشرين يومًا. وتقول: لقيت القوم جميعًا إلَّا واحدًا أو اثنين. ولا يجوز أن(7) تقول: القوم جميعًا إلَّا أكثرهم.
          وأمَّا قول ابن سيرين فيمن قال لكريِّه: (أَرْحِلْ رِكَابَكَ، فَإِنْ لَمْ أَرْحَلْ مَعَكَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا فَلَكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ) فيفسِّر ذلك أنَّ المُكارين لإبلهم في الأمصار يخرجون الإبل إلى المسارح الخصبة البعيدة، ويبقون في الأمصار يعقدون الكراء مع الناس ويَتَّعِدون على الرحيل يوم كذا، فربَّما استجلبوا الإبل ذلك اليوم، فيقول التجَّار: لم يتهيَّأ لنا الخروج اليوم، فيشقُّ على الحمَّالين(8) علف إبلهم، فيقول التجَّار: إن لم نرحل(9) معك يوم كذا فلك كذا تعلف به إبلك. فهذا شرطٌ لا يجوز في السُنَّة عند أكثر العلماء، وإنَّما قضى بذلك شريحٌ؛ لأنَّه من طريق العِدَة والتطوُّع، ومن تطوَّع بشيءٍ استحبَّ له إنجازه وإنفاذه، إلَّا أنَّ جمهور الفقهاء لا يقضون بوجوب العِدَة، وإنَّما يستحبُّون الوفاء بها.
          وأمَّا قول الذي ابتاع الطعام: (إِنْ لَمْ آتِكَ يَومَ الأَرْبِعَاءَ فَلَا بَيعَ وَبَيْنَك)، فذهب شريحٌ إلى أنَّه إن لم يأت الأجل(10) فلا بيع بينهما، فإنَّ العلماء اختلفوا في جوازه، فقال ابن الماجِشون: البيع والشرط جميعًا(11) جائزان وحمله محمل بيع الخيار إلى وقت مسمًّى، فإذا جاز الوقت فلا خيار له ويبطل البيع، ومصيبه قبل ذلك من البائع، كان ذلك بيده أو بيد المبتاع على سنَّة بيع الخيار، وممَّن أجاز البيع والشرط في هذه المسألة: الثوريُّ وأحمد وإسحاق.
          وقال / أبو حنيفة: إن كان الأجل ثلاثة أيَّامٍ فالبيع جائزٌ. وقال محمَّد بن الحسن: يجوز الأجل أربعة أشهرٍ وعشرة أيَّامٍ.
          وقال مالكٌ في «المدوَّنة»: من باع سلعةً وشرط إن لم ينقده المشتري إلى أجلٍ فلا بيع بينهما، فهذا بيعٌ مكروهٌ، فإن وقع ثبت البيع وبطل الشرط، ومصيبة السلعة من البائع حتَّى يقبضها المشتري.
          ووقع في بعض النسخ <باب ما لا يجوز من الاشتراط والثنيا> وهو خطأٌ، والصواب ما يجوز بإسقاط <لا> وكذلك في نسخة النسفيِّ وفي رواية أبي ذرٍ أيضًا. وحديث أبي هريرة الذي أدخله البخاريُّ في هذا الباب يدلُّ على صحَّة رواية النسفيِّ وأبي ذرٍّ، والله الموفِّق للصواب.


[1] في (ز) و(ص): ((الاستقراض)) والمثبت من المطبوع.
[2] في (ص): ((يتعارفه)).
[3] في (ص): ((واحد)).
[4] في (ص): ((وغيره)).
[5] زاد في (ص): ((له)).
[6] في (ص): ((فإذا)).
[7] : قوله: ((يجوز أن)) ليس في في (ص).
[8] في (ص): ((الناس)).
[9] في (ص): ((أرحل)).
[10] في (ص): ((للأجل)).
[11] قوله: ((جميعا)) ليس في (ص).