شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الشروط مع الناس بالقول

          ░12▒ باب: الشُّرُوطِ مَعَ النَّاسِ بِالْقَوْلِ
          فيه ابْنُ عَبَّاسٍ: عَنْ أبيٍّ قَالَ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (مُوسَى رَسُولُ اللهِ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ(1) إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}[البقرة:72]كَانَتِ الأولَى نِسْيَانًا وَالْوُسْطَى شَرْطًا وَالثَّالِثَةُ عَمْدًا). [خ¦2728]
          وإنَّما أراد البخاريُّ بهذا الباب _والله أعلم_ ليدلَّ على أنَّ ما يقع بين الناس في محاوراتهم ممَّا يكثر وقوعه(2) بينهم، فإنَّ الشرط بالقول يغني في ذلك عن الشرط بالكتاب والإشهاد عليه، ألا ترى أنَّ موسى ◙ لم يشهد أحدًا على نفسه حين قال للخضر ◙: {سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}[الكهف:69]وكذلك الخضر حين شرط على موسى ألَّا يسأله عن شيءٍ حتَّى يحدث له منه ذكرًا؛ لم يكتب بذلك كتابًا ولا أشهد شهودًا، وإنَّما يجب الإشهاد والكتاب في الشروط التي يعمُّ المسلمين نفعها ويخاف أن يكون في انتقاضها والرجوع فيها جرمٌ(3) وفسادٌ، وكذلك ما كان في معناها ممَّا يخصُّ بعض الناس، فاحتيج(4) فيها إلى الكتاب والإشهاد خوف ذلك، ألا ترى أنَّ النَّبيَّ صلعم كتب الصلح مع سهيل بن عَمْرٍو وأهل مكَّة / ليكون حاجزًا(5) للمشركين عن التناقض والرجوع في شيءٍ من الصلح وشاهدًا عليهم إن همُّوا(6) بذلك.
          قال المُهَلَّب: وفيه أنَّ النسيان لا يُعَدُّ ولا يؤاخذ به.
          وفيه دليلٌ أنَّه يجب الرفق بالعلماء، وألَّا يهجم عليهم بالسؤال عن معاني أقوالهم في كلِّ وقتٍ إلَّا عند انبساط نفوسهم وانشراح صدورهم، لا سيَّما إذا شرط ذلك العالم على المتعلِّم.
          وفيه: أنَّه يجوز سؤال العالم عن معاني أفعال النبيِّ صلعم وأقواله؛ لأنَّ موسى سأل الخضر عن معنى قتل الغلام وخرق السفينة وإقامة الجدار، فأخبره بعلل أفعاله ووجه الحكمة فيها، وإنَّما كان شرط ألَّا يسأله عن شيءٍ حتَّى يحدث له منه ذكرًا _والله أعلم_ أنَّه أراد أن يتأدَّب عليه في تعليمه، ويأخذ عفوه فيه حتَّى ينشط(7) إلى الشرح والتفسير، ففي إخباره بتأويل ذلك دليلٌ على أنَّ أفعال الأنبياء وأقوالهم ينبغي أن تعرف معانيها ووجه ما صنعت له، والله الموافق للصواب.


[1] زاد في (ص): ((لك)).
[2] قوله: ((وقوعه)) ليس في (ص).
[3] في (ص): ((خرم)).
[4] في (ص): ((واحتيج)).
[5] في (ص): ((حاجًا)).
[6] قوله: ((إن هموا)) ليس في (ص).
[7] في (ص): ((ينبسط)).