شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: إذا اشترط البائع ظهر الدابة إلى مكان مسمى جاز

          ░4▒ باب: إِذَا اشْتَرَطَ الْبَائِعُ ظَهْرَ الدَّابَّةِ إلى مَكَانٍ مُسَمًّى جَازَ
          فيه: جَابِرٌ: (أَنَّهُ كَانَ يَسِيرُ على جَمَلٍ لَهُ قَدْ أَعْيَا، فَمَرَّ النَّبيُّ صلعم فَضَرَبَهُ، فَدَعَا(1)، فَسَارَ سيرًا لَيْسَ يَسِيرُ مِثْلَهُ، ثُمَّ قَالَ: بِعْنِيهِ بِأوقِيَّةٍ(2)، قُلْتُ: لا، ثُمَّ قَالَ: بِعْنِيهِ بِأوقِيَّةٍ، فَبِعْتُهُ، فَاسْتَثْنَيْتُ حُمْلانَهُ إلى أَهْلِي، فَلَمَّا قَدِمْنَا أَتَيْتُ بِالْجَمَلِ وَنَقَدَنِي / [ثَمَنَهُ، ثُمَّ انْصَرَفْتُ، فَأَرْسَلَ على إِثْرِي وَقَالَ: مَا كُنْتُ لآخُذَ جَمَلَكَ، فَخُذْ جَمَلَكَ ذَلِكَ، فَهُوَ مَالُكَ).
          وَقَالَ شُعْبَةُ: (أَفْقَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلعم ظَهْرَهُ إلى الْمَدِينَةِ).
          وَقَالَ إِسْحَاقُ عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ مُغِيرَةَ: فَبِعْتُهُ على أَنَّ لي فَقَارَ ظَهْرِهِ حَتَّى آتِي الْمَدِينَةَ.
          وَقَالَ عَطَاءٌ وَغَيْرُهُ: وَلَكَ ظَهْرُهُ إلى الْمَدِينَةِ.
          وَقَالَ ابْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ: شَرَطَ ظَهْرَهُ إلى الْمَدِينَةِ.
          وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ جَابِرٍ: وَلَكَ ظَهْرُهُ حَتَّى تَرْجِعَ.
          وَقَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ: أَفْقَرْنَاكَ ظَهْرَهُ إلى الْمَدِينَةِ.
          وَقَالَ الأعْمَشُ عَنْ سَالِمٍ، عَنْ جَابِرٍ: تَبَلَّغْ عَلَيْهِ إلى أَهْلِكَ.
          قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: الاشْتِرَاطُ أَكْثَرُ وَأَصَحُّ عِنْدِي.
          وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ وَغَيْرِهِ، عَنْ جَابِرٍ: أَخَذْتُهُ بِأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ، وَهَكَذَا تَكُونُ أوَقِيَّةً على حِسَابِ الدِّينَارِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَلَمْ يُبَيِّنِ الثَّمَنَ مُغِيرَةُ عَنِ الشَّعبِيِّ، عَنْ جَابِرٍ وَابْنُ الْمُنْكَدِرِ، وَأَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ، وَقَالَ الأعْمَشُ عَنْ سَالِمٍ، عَنْ جَابِرٍ: أوَقِيَّةُ ذَهَبٍ.
          وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ سَالِمٍ، عَنْ جَابِرٍ: مِائَتَيْ دِرْهَمٍ.
          وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ جَابِرٍ: اشْتَرَاهُ بِطَرِيقِ تَبُوكَ أَحْسِبُهُ قَالَ: بِأَرْبَعة أَوَاقٍ.
          وَقَالَ أَبُو نَضْرَةَ عَنْ جَابِرٍ: اشْتَرَاهُ بِعِشْرِينَ دِينَارًا.
          وَقَوْلُ الشَّعبيِّ: بِوَقِيَّةٍ أَكْثَرُ. [خ¦2718]
          اختلف العلماء في تأويل هذا الحديث لاختلاف ألفاظه، فمرَّةً روي بلفظ الهبة والإفقار، ومرَّةً روي بلفظ الاستثناء والاشتراط، واختلاف اللفظ يوجب اختلاف المعاني عند الفقهاء، إلَّا أنَّ البخاريَّ غلَّب لفظ الاشتراط وقضى له على غيره بالصحَّة، وممَّن قال بذلك من الفقهاء: الأوزاعيُّ وأحمد وأبو ثورٍ ومحمَّد بن نصرٍ المروزيُّ، وأهل الحديث قالوا: لا بأس أن يبيع الرجل الدَّابَّة ويشترط ظهرها إلى مكانٍ معلومٍ، والبيع في ذلك جائزٌ والشرط ثابتٌ.
          وقال مالكٌ: إن كان الاشتراط للركوب إلى مكانٍ قريبٍ مثل اليوم واليومين والثلاثة فلا بأس بذلك، وإن كان بعيدًا فلا خير فيه على ظاهر حديث جابرٍ أنَّه باع الجمل من النبيِّ صلعم واستثنى ركوبه إلى المدينة، وكان بينه وبينها ثلاثة أيَّامٍ. وقال مالكٌ: ولا بأس أن يشترط سكنى الدار الأشهر والسنة.
          وقالت طائفةٌ: إذا اشترط ركوب الدابَّة أو خدمة العبد أو سكنى الدار فالبيع فاسدٌ. هذا قول الكوفيِّين والشافعيِّ.
          وقالوا: قد ورد حديث جابرٍ بلفظ الإفقار والهبة، وهو أولى من حديث الاشتراط. قالوا: ولا يخلو شرط ركوب البائع أن يكون الركوب مستحقًّا من مال المشتري، فيكون البيع فاسدًا؛ لأنَّه شرط لنفسه ما قد ملكه المشتري، أو يكون استثناؤه الركوب أوجب بقاء الركوب في ملك البائع، فهذا محالٌ؛ لأنَّ المشتري لم يملك المنافع بعد البيع من جهة البائع، وإنَّما ملكها لأنَّها طرأت في ملكه، وكذلك سكنى الدار ونحوها.
          واحتجَّ عليهم من خالفهم، فقال: إنَّه لا خلاف بيننا أنَّه لو باع نخلًا عليها ثمرٌ قد أُبِّر وبقَّاها لنفسه أنَّه جائزٌ، والثمرة تبقى على نخل المبتاع إلى وقت جدادها، وقد باع النخل واستثنى منفعة تلك الثمرة لنفسه، وجاز ذلك فكذلك في مسألتنا، وقد أجمعوا على جواز الغرر اليسير في البيوع، وقد أجازه النبيُّ صلعم، وروي عن عثمان: أنَّه باع دارًا واشترط لنفسه سكناها مدَّةً معلومةً، وعثمان إمامٌ فعل ذلك بين الصحابة، فلم ينكره أحدٌ.
          فإن قالوا: إنَّ النبيَّ صلعم نهى عن بيعٍ وشرطٍ.
          قيل: الذي نهى عن ذلك هو الذي جوَّز البيع والشرط في حديث جابرٍ، فدلَّ أنَّ الحديث مخصوصٌ؛ لأنَّ من الشروط ما يجوز ومنها ما لا يجوز، وقد قال: ((المؤمنون عند شروطهم))، قال ابن المنذر: وحديث جابرٍ مستغنًى به عن قول كلِّ أحدٍ، وإنَّما نهى أن يستثني مجهولًا من معلومٍ، فأمَّا إذا علم المستثنى فذلك جائزٌ، ومن خالف حديث جابرٍ مستثني برأيه فيما لا سنَّة فيه، كالدار يبيعها الرجل وقد أكراها مدَّةً معلومًا أنَّ سكناها للمكتري على المشتري إلى انقضاء المدَّة، فإذا جاز هذا ولا سنَّة فيه فالسنَّة الثابتة أولى أن نستن بها.
          قال المُهَلَّب: ومن روى: (وَلَكَ ظَهرُهُ إِلَى المَدِينَةِ)، يدلُّ على أنَّه تفضَّل عليه بركوبه إلى المدينة، ولم يكن من اشتراط جابرٍ على النبيِّ صلعم في أصل البيع.
          ويؤيِّد ذلك رواية من روى: (فَأَفْقَرَهُ ظَهرَهُ إِلَى المَدِينَةِ)، والافتقار لا يكون إلَّا تفضُّلًا، فيكون معنى رواية من روى: (وَشَرَطَ لَهُ ظَهرَهُ إِلَى المَدِينَةِ) شرط تفضُّلٍ؛ لأنَّ القصَّة كلَّها جرت على جهة التفضُّل من النبيِّ صلعم والرفق بجابرٍ؛ لأنَّه وهبه الجمل بعد أن أعطاه ثمنه وزاده زيادةً، وكيف يشرط عليه جابرٌ ركوبه وحين قال له النبي صلعم: ((بِعْنِيهِ)). قَالَ لَهُ جابرٌ: هُوَ لَكَ يَا رَسُولَ اللهِ بِلَا ثَمَنٍ، فلم يقبله النبيُّ صلعم إلَّا بثمنٍ رفقًا به. ذكره البخاريُّ في كتاب الوكالات في باب إذا وكَّل رجلًا أن يعطي شيئًا فلم يبيِّن كم يعطي. [خ¦2309]
          قال المُهَلَّب: وأمَّا اختلافهم في ثمن الجمل فلا حاجة بنا إلى علم مقداره؛ لأنَّه(3) يجوز بيعه بالقليل والكثير، وإنَّما الغرض في الحديث نقل العقد وأنَّه كان بثمنٍ، فلذلك لم يعتبر مقداره.
          والإفقار في الإبل: أن يعار للركوب والحمل عليها. عن الخطَّابيِّ، وفي كتاب «العين»: أفقرت الرجل الدابَّة إذا أعرته ظهرها. والفقار: عظم الصلب.]
(4)


[1] زاد في (ص): ((له)).
[2] في (ص): ((بوقية)) وكذا في الموضع بعده.
[3] زاد في (ز) والمطبوع: ((لا)) وحذفت لأنه لا يستقيم معها الكلام.
[4] ليس في ص