شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: {وعلى الوارث مثل ذلك}

          ░14▒ بَاب {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}[البقرة:233]وَهَلْ على الْمَرْأَةِ مِنْهُ شَيءٌ؟ {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ} الآية[النحل:76]
          فيه: أُمُّ سَلَمَةَ قُلْتُ: (يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ لِي مِنْ أَجْرٍ في بَنِي أَبِي سَلَمَةَ أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْهِمْ، وَلَسْتُ بِتَارِكَتِهِمْ هَكَذَا وَهَكَذَا، إِنَّمَا هُمْ بَنِيَّ، قَالَ: نَعَمْ لَكِ أَجْرُ مَا أَنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ). [خ¦5369]
          وفيه: هِنْدُ قالت: (يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِينِي وَبَنِيَّ؟ قَالَ: خُذِي بِالْمَعْرُوفِ). [خ¦5370]
          اختلف العلماء في تأويل قوله تعالى: {وعلى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}[البقرة:233]، فروي عن ابن عبَّاسٍ، قال: عليه أن لا يضارَّ، وهو قول الشَّعبيِّ ومجاهدٍ والضحَّاك ومالكٍ، قالوا: عليه أن لا يضارَّ ولا غرم عليه.
          وقالت طائفةٌ: على الوارث ما كان على الوالد من أجر الرضاع إذا كان الولد لا مال له.
          ثمَّ اختلفت هذه الطائفة فيمن الوارث الذي عناه الله تعالى في(1) الآية على أقوالٍ: فقالت طائفةٌ: هو(2) كلُّ وارثٍ للأب أخًا(3) كان أو عمًّا، أو ابن عمٍّ، أو ابن أخٍ، روي هذا عن الحسن البصريِّ، قال: {وعلى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}[البقرة:233]، قال: على الرجال دون النساء، وهو قول النَّخَعِيِّ ومجاهدٍ.
          وقال آخرون: هو من ورثته من كان ذا رحمٍ محرَّمٍ للمولود، فأمَّا من(4) كان ذا رحمٍ وليس بمحرَّمٍ كابن العمِّ والمولى، فليس ممَّن عناه الله بالآية، هذا قول أبي حنيفة وأصحابه. وقال آخرون: الذي عنى الله تعالى بقوله: {وعلى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}[البقرة:233]هو المولود / نفسه، روي هذا عن قَبِيصَة بن ذُؤَيبٍ والضحَاك، وتأوَّلوا على الوارث المولود ما كان على المولود له.
          وقال آخرون: هو الباقي من والدي المولود(5) بعد وفاة الآخر منهما، وهذا يوجب أن تدخل الأمُّ في جملة الورثة الذين عليهم أجر الرضاع، فيكون عليها رضاع ولدها واجبًا إن لم يترك أبوه مالًا، روي هذا القول عن زيد بن ثابتٍ، قال: إذا خلف أمًّا وعمًّا، فعلى كلِّ واحدٍ رضاعه بقدر ميراثه، وهو قول الثوريِّ.
          وإلى ردِّ هذا القول أشار البخاريُّ بقوله: (وَعَلَى(6) المَرأَةِ مِنهُ شَيءٌ؟) يعني: من رضاع الصبيِّ ومؤونته، فذكر قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ(7)}[النحل:76]، وشبَّه(8) منزلة المرأة من الوارث منزلة الأبكم الذي لا يقدر على النطق من المتكلِّم، وجعلها كَلًّا على من يعولها، وذكر حديث أمِّ سلمة والمعنى فيه أنَّ أمَّ سلمة(9) كان لها ابنًا من أبي سلمة، ولم يكن لهم مالٌ، فسألت النَّبِيِّ صلعم إن كان لها أجرٌ في الإنفاق عليهم ممَّا يعطيها النبيُّ صلعم، فأخبرها أنَّ لها أجرًا في ذلك، فدلَّ هذا الحديث أنَّ نفقة بنيها لا تجب عليها، ولو وجبت عليها لم تقل للنَّبِيِّ صلعم: (وَلَستُ بِتَارِكَتُهُم)، ولبيَّن لها النبيُّ صلعم أنَّ نفقتهم واجبةٌ عليها سواءً تركتهم أو لم تتركهم.
          وأمَّا حديث هند، فإنَّ النبيَّ صلعم أطلقها على أخذ نفقة بنيها من مال الأب، ولم يوجبها عليها كما أوجبها على الأب، فاستدلَّ البخاريُّ أنَّه لمَّا لم يلزم الأمَّهات نفقة الأبناء في حياة الآباء، فكذلك لا يلزمها بموت الآباء، وحجَّةٌ أخرى وذلك أنَّ قوله تعالى: {وعلى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ}[البقرة:233]، يعني: رزق الأمَّهات وكسوتهنَّ من أجل إرضاع الأبناء(10)، فكيف يعطيهنَّ في أوَّل الآية وتجب عليهنَّ نفقة الأبناء في آخرها.
          وأمَّا من قال: {وعلى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}، هو الولد، فيقال له: لو أريد بذلك الولد لقال تعالى: وعلى المولود مثل ذلك، فلمَّا قال: {وعلى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}[البقرة:233]، وكان الوارث اسمًا عامًّا يقع على جماعةٍ غير الولد، لم يجز أن يخصَّ به الولد ويقتصر عليه دون غيره إلَّا بدلالةٍ بيِّنةٍ وحجَّةٍ واضحةٍ.
          قال إسماعيل بن إسحاق: وأمَّا قول أبي حنيفة في إيجابه رضاع الصبيِّ ونفقته على كلِّ ذي رحمٍ محرَّمٍ، مثل أن يكون رجلٌ له ابن أختٍ صغيرٌ محتاجٌ وابن عمٍّ صغيرٌ محتاجٌ وهو وارثه، فإنَّ النفقة تجب على الخال لابن أخته الذي لا يرثه، وتسقط عن ابن العمِّ لابن عمِّه الذي يرثه، فقالوا قولًا ليس في كتاب الله، ولا نعلم أحدًا قاله، وإنَّما أوجب بعضهم الرضاعة على الوارث لما تأوَّل من القرآن، وأسقط بعضهم ذلك عنه لما تأوَّل أيضًا، وهم الذين قالوا: على الوارث ألَّا يضارَّ، ولا غرم عليه، فأمَّا النفقة على كلِّ ذي رحمٍ محرَّمٍ، فليس في قولهم تأويلٌ للقرآن، ولا اتِّباعٌ للحديث، ولا قياسٌ على أصلٍ يرجع إليه، ومذهب مالكٍ في هذا الباب أنَّه لا تجب نفقة الصغير إلَّا على الأب خاصَّةً، وهو المذكور في القرآن في قوله تعالى: {وَ على الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}[البقرة:233]، وفي قوله تعالى: {وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}[الطلاق:6].
          فلمَّا وجب على الأب الإنفاق على من ترضع ولده وجب عليه النفقة على ولده إذا خرج من الرضاع ما دام صغيرًا، ووجب أن يغذى بالطعام كما كان يغذى بالرضاع، ولم تجب النفقة على الوارث لما في تأويل الآية من الاختلاف، وليس مجراهم في النظر مجرى الأب؛ لأنَّ الأب وجب عليه رضاع ولده حين ولد، ولم يجب على غيره من ورثته، فلا يرجع ذلك عليهم بعد أن لم يكن واجبًا في الأصل إلَّا بحجَّةٍ، وكان يجب على قولهم: إذا مات الرجل عن امرأته وهي حاملٌ ولم يخلف مالًا أن يلزموا العصبة النفقة على المرأة من أجل ما في بطنها، وكان يجب على مذهب أبي حنيفة أن يلزموا كلَّ ذي رحمٍ محرَّمٍ النفقة على هذه الأمِّ من أجل ما في بطنها، كما يلزمون أجر رضاعه إذا وضعت(11) / أمُّه؛ لأنَّهم إنَّما يلزمون الرحم النفقة على الأمِّ التي ترضع المولود من أجل المولود.


[1] زاد في (ص): ((هذه)).
[2] في (ص): ((هم)).
[3] في (ص): ((أبًا)).
[4] في (ص): ((المولود فمن)).
[5] قوله: ((ما كان على المولود له. وقال آخرون: هو الباقي من والدي المولود)) ليس في (ص).
[6] في (ص): ((وهل على)).
[7] قوله: ((على شي)) ليس في (ص).
[8] قوله: ((شبه)) ليس في (ص).
[9] قوله: ((والمعنى فيه أن أم سلمة)) ليس في (ص).
[10] في (ص): ((الرضاع للأبناء)).
[11] في (ص): ((أرضعته)).