شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب عمل المرأة في بيت زوجها

          ░6▒ بَاب عَمَلِ الْمَرْأَةِ في بَيْتِ زَوْجِهَا
          فيه: عَلِيٌّ: (أَنَّ فَاطِمَةَ أَتَتِ النَّبيَّ صلعم تَشْكُو إِلَيْهِ مَا تَلْقَى في يَدِهَا مِنَ الرَّحَى، وَبَلَغَهَا أَنَّهُ جَاءَهُ رَقِيقٌ، فَلَمْ تُصَادِفْهُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ، فَلَمَّا جَاءَ أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ، قَالَ: فَجَاءَنَا، وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا، فَذَهَبْنَا نَقُومُ، فَقَالَ: على مَكَانِكُمَا، فَجَاءَ فَقَعَدَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا، حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمِهِ(1) على بَطْنِي، فَقَالَ: أَلَا أَدُلُّكُمَا على خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَا؟ إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا _أَوْ أَوَيْتُمَا إلى فِرَاشِكُمَا_ فَسَبِّحَا ثَلاثًا وَثَلاثِينَ وَاحْمَدَا ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، وَكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلاثِينَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ). [خ¦5361]
          وترجم له باب خادم المرأة. وقال فيه عليٌّ: فَمَا تَرَكْتُهَا بَعْدُ، قِيلَ: وَلاَ لَيْلَةَ صِفِّينَ؟ قَالَ: وَلاَ لَيْلَةَ صِفِّينَ
          قال ابن حبيبٍ: إنَّ الزوج إذا كان معسرًا وإن كانت الزوجة ذات قدرٍ وشرفٍ فإنَّ عليها الخدمة الباطنة كالعجن والطبخ والكنس وما شاكله، وهكذا أوضح لي ابن الماجِشون وأصبغ. قال ابن حبيبٍ: وكذلك حكم النبيُّ صلعم على فاطمة بالخدمة الباطنة من خدمة البيت، وحكم على عليٍّ بالخدمة الظاهرة، وقال بعض شيوخي: لا نعرف في شيءٍ من الآثار(2) الثابتة أنَّ النبيَّ صلعم قضى على فاطمة بالخدمة الباطنة، وإنَّما كان نكاحهم على المتعارف بينهم من الإجمال وحسن العشرة، وأمَّا أن تجبر المرأة على شيءٍ من الخدمة فليس لها أصلٌ في السنَّة، بل الإجماع منعقدٌ على أنَّ على الزوج مؤونة الزوجة كلَّها.
          وقال الطحاويُّ: لم يختلفوا أنَّ المرأة ليس عليها أن تخدم نفسها، وأنَّ على الزوج أن يكفيها ذلك، وأنَّه لو كان معها خادمٌ لم يكن للزوج إخراج الخادم من بيته، فوجب أن تلزمه نفقة الخادم على حسب حاجتها إليه، وذكر ابن الحكم عن مالكٍ أنَّه ليس على المرأة خدمة زوجها.
          وقال الطبريُّ: في حديث فاطمة الإبانة عن أنَّ كلَّ من كانت به طاقةٌ من النساء على خدمة نفسها في خبزٍ أو طحينٍ وغير ذلك ممَّا تعانيه المرأة في بيتها ولا(3) يحتاج فيه إلى الخروج أنَّ ذلك موضوعٌ عن زوجها إذا كان معروفًا لها أنَّ مثلها تلي ذلك بنفسها، وأنَّ زوجها غير مأخوذٍ بأن(4) يكفيها ذلك، كما هو مأخوذٌ في حال عجزها عنه إمَّا بمرضٍ أو زمانةٍ، وذلك أنَّ فاطمة ♦ إذ(5) شكت / ما تلقى في يدها من الطحن والعجين إلى أبيها صلعم، وسألته خادمًا لعونها على ذلك، لم يأمر زوجها عليًّا بأن يكفيها ذلك، ولا ألزمه وضع مؤونة ذلك عنها إمَّا بإخدامها أو باستئجار(6) من يقوم بذلك، بل قد روي عنه صلعم أنه قال لها: ((يا بنيَّة اصبري، فإنَّ خير النساء التي نفعت أهلها)).
          وفي هذا القول من النبيِّ صلعم دليلٌ بيِّنٌ أنَّ فاطمة مع قيامها بخدمة نفسها كانت تكفي عليًّا بعض مؤنه من الخدمة، ولو كانت كفاية ذلك على عليٍّ لكان قد تقدَّم صلعم إلى عليٍّ في كفايتها ذلك، كما تقدَّم إليه إذ أراد الابتناء بها أن يسوق إليها صداقها حين قال له: ((أين درعك الحطميَّة؟)).
          وغير جائزٍ(7) أن يعلم النبيُّ صلعم أمَّته الجميل من محاسن الأخلاق ويترك تعليمهم الفروض التي ألزمهم الله، ولا شكَّ أن سوق الصداق إلى المرأة في حال إرادته الابتناء بها غير فرضٍ إذا رضيت بتأخيره عن زوجها.
          فإن قيل: فإنَّك تلزم الرجل إذا كان ذا سعةٍ كفاية زوجته الخدمة إذا كانت المرأة ممَّن لا يخدم مثلها.
          قيل: حكم من كان كذلك من النساء حكم ذوات الزمانة والعاهة منهنَّ اللواتي لا يقدرن على خدمةٍ، ولا خلاف بين أهل العلم أنَّ على الرجل كفاية من كان منهنَّ كذلك، فلذلك ألزمنا الرجل كفاية التي لا تخدم نفسها مؤونة الخدمة التي لا تصلح لها، وألزمناه مؤونة خادمٍ إذا كان في سعةٍ، وبنحو الذي قلنا نزل القرآن، وذلك قوله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا(8)} الآية[الطلاق:7]، وعليه علماء الأمَّة مجمعةٌ.
          وقال غيره: وشذَّ أهل الظاهر عن الجماعة، فقالوا: ليس عليه أن يخدمها إن كان موسرًا أو كانت ممَّن لا يخدم مثلها، وحجَّة الجماعة قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}[النساء:19]، وإذا احتاجت إلى من يخدمها فلم يفعل لم(9) يعاشرها بالمعروف. وقال مالكٌ والليث ومحمَّد بن الحسن: يفرض لها ولخادمين إذا كانت خطيرةً. وقال الكوفيُّون والشافعيُّ: يفرض لها ولخادمها النفقة، وقد تقدَّم شيءٌ من معنى هذا الباب في كتاب النكاح في باب الغيرة في حديث أسماء. [خ¦5224]
          وقوله: (بَابُ خَادِمِ المَرْأَةِ) فإنَّ عامَّة الفقهاء متَّفقون أنَّ الرجل إذا أعسر عن نفقة الخادم أنَّه لا يُفرَّق بينه وبين امرأته، وإن كانت ذات قدرٍ؛ لأنَّ عليًّا ☺ لم يلزمه النبيُّ صلعم إخدام فاطمة في عسرته، ولا أمره أن يكفيها ما شكت من الرحى.
          قال المُهَلَّب: وفي هذا الحديث من الفقه أنَّ المرأة الرفيعة القدر يجمل بها الامتهان في الشاقِّ(10) من خدمة زوجها مثل الطحن وشبهه؛ لأنَّه لا أرفع منزلةً من بنت رسول الله صلعم، ولكنهم كانوا يؤثرون الآخرة ولا يترفَّهون عن خدمتهم احتسابًا لله تعالى وتواضعًا في عبادته.
          وفيه: إيثار التقلُّل من الدنيا والزهد فيها رغبةً في ثواب الآخرة، ألا ترى إلى قوله صلعم: (أَلاَ أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَا؟)، فدلَّهما على التسبيح والتحميد والتكبير.


[1] في (ص): ((قدميه)).
[2] في (ص): ((الأخبار)).
[3] في (ص): ((أو لا)).
[4] في (ص): ((أن)).
[5] قوله: ((إذ)) ليس في (ص) وفيها بعدها: ((اشتكت)).
[6] في (ص): ((باستئجاره)).
[7] في (ص): ((ذلك)).
[8] قوله: ((وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا)) ليس في (ص).
[9] قوله: ((لم)) زيادة من (ص).
[10] في (ص): ((المشاق)).