شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب وجوب النفقة على الأهل والعيال

          ░2▒ بَاب وُجُوبِ النَّفَقَةِ على الأهْلِ وَالْعِيَالِ
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قال: قال النبيُّ صلعم: (أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا تَرَكَ غِنًى، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، تَقُولُ الْمَرْأَةُ: إِمَّا أَنْ تُطْعِمَنِي، وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَنِي، وَيَقُولُ الْعَبْدُ: أَطْعِمْنِي، وَاسْتَعْمِلْنِي، وَيَقُولُ الابْنُ: أَطْعِمْنِي(1) إلى مَنْ تَدَعُنِي؟ قَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، سَمِعْتَ(2) هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلعم قَالَ: لا، هَذَا مِنْ كِيسِ أبي هُرَيْرَةَ). [خ¦5355]
          قال المُهَلَّب: النفقة على الأهل والعيال واجبةٌ بإجماعٍ، وهذا الحديث حجَّةٌ في ذلك.
          وقوله ◙: (وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ)، ولم يذكر إلَّا الصدقة يدلُّ أنَّ نفقته على من يعول من أهلٍ وولدٍ محسوبٌ له في الصدقة، وإنَّما أمرهم الله تعالى أن يبدؤوا بأهليهم خشية أن يظنُّوا أنَّ النفقة على الأهل لا أجر لهم فيها، فعرَّفهم صلعم أنَّها لهم صدقةٌ حتَّى لا يخرجوها إلى غيرهم إلَّا بعد أن يُقَوِّتوهم.
          قال الطبريُّ: وقوله ◙: (وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ)، إنَّما قال ذلك؛ لأنَّ حقَّ نفس المرء عليه أعظم من حقِّ كلِّ أحدٍ بعد الله ╡، فإذا صحَّ ذلك فلا وجه لصرف ما هو مضطرٌّ إليه إلى غيره، إذ كان ليس لأحدٍ إحياء غيره بإتلاف نفسه وأهله، وإنَّما له إحياء غيره بغير إهلاك نفسه وأهله وولده، إذ فرض عليه النفقة عليهم، وليست النفقة على غيرهم فرضًا عليه، ولا شكَّ أنَّ الفرض أولى بكلِّ أحدٍ من إيثار التطوُّع عليه.
          وفيه: أنَّ النفقة على الوِلد ما داموا صغارًا فرضٌ عليه؛ لقوله: (إِلَى مَنْ تَدَعُنِي؟) وكذلك نفقة العبد والخادم للمرء واجبةٌ لازمةٌ.
          قال ابن المنذر: واختلفوا في نفقة من بلغ من الأبناء ولا مال له ولا كسب، فقالت طائفةٌ: على الأب أن ينفق على ولد صلبه الذكور حتَّى يحتلموا والنساء حتَّى يُزوَّجن ويدخل بهنَّ، فإن طلَّقها بعد البناء أو مات عنها فلا نفقة لها على أبيها، وإن طلَّقها قبل البناء فهي على نفقتها، ولا نفقة لولد الولد على الجدِّ، هذا قول مالكٍ.
          وقالت طائفةٌ: ينفق على ولده حتَّى يبلغ الحلم والمحيض، ثمَّ لا نفقة عليه إلَّا أن يكونوا زمنى، وسواءٌ في ذلك الذكور والإناث ما لم يكن لهم أموالٌ، وسواءٌ في ذلك ولده وولد(3) ولده وإن سفلوا ما لم يكن لهم أبٌ(4) دونه يقدر على النفقة عليهم، هذا قول الشافعيِّ.
          وقال الثوريُّ: يجبر الرجل على نفقة ولده الصغار غلامًا كان أو جاريةً، فإن كانوا كبارًا أجبر على نفقة النساء ولا يجبر على نفقة الرجل(5) إلَّا أن يكونوا زمنى.
          وأوجبت طائفةٌ النفقة لجميع الأطفال والبالغين من الرجال والنساء إذا لم يكن لهم أموالٌ يستغنون بها عن نفقة الوالد على ظاهر قول رسول الله صلعم لهند: ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف))، ولم يستثن ولدًا بالغًا دون طفل.
          وقوله في حديث أبي هريرة: (يَقُولُ الابْنُ: أَطْعِمْنِي إِلَى مَنْ تَدَعُنِي؟) يدلُّ على أنَّه إنَّما يقول ذلك من لا طاقة له على الكسب والتحرُّف، ومن بلغ سنَّ الحلم فلا يقول ذلك؛ لأنَّه قد بلغ حدَّ السعي على نفسه والكسب لها، بدليل قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}[النساء:6]، فجعل بلوغ النكاح حدًّا في ذلك.
          واختلفوا في المعسر هل يُفرَّق بينه وبين امرأته بعدم النفقة؟ فقال مالكٌ والليث والأوزاعيُّ والشافعيُّ وأحمد وإسحاق وأبو ثورٍ: إذا أعسر بالنفقة، فلزوجته(6) الخيار بين أن تقيم عليه، ولا يكون لها شيءٌ في ذمَّته أصلًا، وبين أن تطلب الفراق فيفرِّق الحاكم بينهما، وقاله من الصحابة عمر وعليٌّ وأبو هريرة، ومن التابعين: سعيد بن المسيِّب، وقال: إنَّ ذلك سنَّةٌ.
          وقالت طائفةٌ: لا يُفرَّق بينهما ويلزمها الصبر عليه وتتعلَّق النفقة بذمَّته بحكم الحاكم، هذا قول عطاءٍ والزهريِّ، وإليه ذهب الكوفيُّون والثوريُّ، واحتجُّوا بقوله تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ}[البقرة:280]، فوجب أن ينظر حتَّى يوسر، وبقوله تعالى: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ} / إلى قوله: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}(7)[النور:32]، فندب تعالى إلى إنكاح الفقير، فلا يجوز أن يكون الفقر سببًا للفرقة، وهو مندوبٌ معه إلى النكاح.
          واحتجَّ عليهم أهل المقالة الأولى بقوله صلعم في حديث أبي هريرة: (إِمَّا أَنْ تُطْعِمَنِي، وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَنِي)، وهذا نصٌّ قاطعٌ في موضع الخلاف، وقالوا أيضًا: أمَّا قوله تعالى: {إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ(8)}[النور:32]، فلم يرد الفقير الذي لا شيء معه أصلًا، وإنَّما المراد الفقير الذي حالته منحطَّةٌ عن حالة الغنيِّ، بدليل أنَّه ندبه إلى النكاح، وأجمعوا أنَّه من لا يقدر على نفقة الزوجة غير مندوبٍ إلى النكاح ولا مستحبٌّ له.
          وأمَّا قوله: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ}[البقرة:280]، فإنَّما ورد في المداينات التي تتعلَّق بالذمم، واحتجُّوا بقوله تعالى: {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ}[البقرة:231]، وإذا لم ينفق عليها فهو مضرٌّ بها، فوجب عليه الفراق إن طلبته، فإن قال الكوفيُّون: لو كان قوله تعالى: {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ}[البقرة:231]، نهيًا واجبًا لم يجز الإمساك وإن رضيته، فيقال لهم: قامت دلالة الإجماع على جواز إمساكهنَّ إذا رضين بذلك، وأمَّا الإعسار فلو أعسر بنفقة خادمٍ أو حيوانٍ له(9)، فإنَّ ذلك يزيل ملكه عنه ويباع عليه، فكذلك(10) الزوجة، وأيضًا فإنَّ(11) العنِّين يجبر على طلاق زوجته إذا لم يطأ، والوطء لمدَّةٍ يمكن الصبر على فقدها ويقوم بدن المرأة بعدمها، والصبر عن القوت ليس كذلك فكانت(12) الفرقة أولى عند عدم النفقة.


[1] قوله: ((وَاسْتَعْمِلْنِي، وَيَقُولُ الابْنُ: أَطْعِمْنِي)) ليس في (ص).
[2] قوله: ((سمعت)) ليس في (ص).
[3] في (ص): ((أو ولد)).
[4] قوله: ((أب)) ليس في (ص).
[5] في (ص): ((الرجال)).
[6] في (ص): ((فللزوجة)).
[7] في (ص): ((إلى: {يغنهم الله})).
[8] قوله: ((من فضله)) ليس في (ص). وبعدها فيها: ((لم)).
[9] في (ص): ((حيوان أو خادم أو حيوان)).
[10] في (ص): ((كذلك)).
[11] في (ص): ((كان)).
[12] في (ص): ((فصارت)).