شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين}

          ░4▒ بَاب قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} إلى قوله(1): {بَصِيرٌ}[البقرة:233]
          وَقَالَ: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} الآية[الطلاق:6]
          وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ الزُّهرِيِّ: نَهى اللهُ ╡(2) أَنْ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا، وَذَلِكَ أَنْ تَقُولَ الْوَالِدَةُ: لَسْتُ مُرْضِعَتَهُ. وَهي أَمْثَلُ لَهُ غِذَاءً، وَأَشْفَقُ عَلَيْهِ، وَأَرْفَقُ بِهِ مِنْ غَيْرِهَا، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَأْبَى بَعْدَ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ نَفْسِهِ مَا جَعَلَ اللهُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلْمَوْلُودِ لَهُ أَنْ يُضَارَّ بِوَلَدِهِ وَالِدَتَهُ، فَيَمْنَعَهَا أَنْ تُرْضِعَهُ ضِرَارًا لَهَا إلى غَيْرِهَا، ولا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَسْتَرْضِعَا عَنْ طِيبِ نَفْسِ الْوَالِدِ وَالْوَالِدَةِ، فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا فلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ، فِصَالُهُ: فِطَامُهُ.
          قال أهل التأويل: / قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ}[البقرة:233]، لفظه لفظ الخبر، ومعناه الأمر لما فيه من الإلزام، كما تقول: حسبك درهمٌ، فلفظه لفظ الخبر، ومعناه: اكتف بدرهمٍ، ومعنى الآية: لترضع الوالدات أولادهنَّ، يعني: اللواتي بنَّ من أزواجهنَّ، ولهنَّ أولاد قد ولدنهنَّ منهم قبل بينونتهنَّ، يرضعن أولادهنَّ، يعني: أنهنَّ أحقُّ برضاعتهم(3) من غيرهنَّ، وليس ذلك بإيجابٍ من الله تعالى عليهنَّ رضاعهم إذا كان المولود له حيًّا موسرًا، بقوله تعالى في سورة النساء القصرى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ(4) وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى}[الطلاق:6]، فأخبر أنَّ الوالدة والمولود له إن تعاسرا في الأجرة التي ترضع بها المرأة ولدها أنَّ أخرى سواها ترضعه، فلم يوجب عليها فرضًا رضاع ولدها.
          وبيان ذلك أنَّ قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ}[البقرة:233]، دلالةٌ على مبلغ غاية الرضاعة التي متى اختلف الوالدان في إرضاع الولد بعدها جعل حدًّا يفصل به بينهما، لا دلالة على أنَّ فرضًا على الوالدات رضاع أولادهنَّ، وأكثر أهل التفسير على أنَّ المراد بالوالدات هاهنا المبتوتات بالطلاق، وأجمع العلماء على أنَّ أجر الرضاع على الزوج إذا خرجت المطلَّقة من العدَّة.
          قال مالكٌ: الرضاع على المرأة إن طلقها طلاقًا رجعيًّا ما لم تنقض العدَّة، فإن انقضت فعلى الأب أجر الرضاع، وكذلك إن كان الطلاق ثلاثًا فعليه أجر الرضاع(5)، وإن لم تنقض العدَّة، والأمُّ أولى بذلك إلَّا أن يجد الأب بدون ما سألت، فذلك له إلَّا ألَّا يقبل الولد غيرها ويخاف على الولد الموت فلها رضاعه بأجر مثلها وتجبر على ذلك.
          واختلفوا في ذات الزوج هل تجبر على رضاع ولدها؟ قال(6) ابن أبي ليلى: تجبر على رضاعه ما كانت امرأته، وهذا قول مالكٍ وأبي ثورٍ.
          وقال الثوريُّ والكوفيُّون(7) والشافعيُّ: لا يلزمها رضاعه وهو على الزوج على كلِّ حالٍ. وقال ابن القاسم: تجبر على رضاعه إلَّا أن يكون مثلها لا يرضع، فذلك على الزوج، وحجَّة من جعل الرضاع على الأمِّ ظاهر قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ} إلى قوله: {بِالْمَعْرُوفِ}[البقرة:233]، فأمر الوالدات الزوجات بإرضاع أولادهنَّ، وأوجب لهنَّ على الأزواج النفقة والكسوة، والزوجيَّة قائمةٌ، فلم يجمع لهما النفقة(8) والأجرة، فلو كان الرضاع على الأب لذكره مع ما ذكر من رزقهنَّ وكسوتهنَّ، ولم يوجب ذلك على الوالدات، ولا يراد بالآية الوالدات اللاتي بنَّ من أزواجهنَّ.
          وحجَّة من قال: الرضاع على الأب، أنَّه لا يخلو أن تجبر على رضاعه لحرمة الولد أو لحرمة الزوج، قالوا: فبطل أن تجبر لحرمة الولد؛ لأنَّها لا تجبر عليه إذا كانت مطلَّقةً ثلاثًا بإجماعٍ، وحرمة الولد موجودةٌ، وبطل أن تجبر لحرمة الزوج؛ لأنَّه لو أراد أن يستخدمها في حقِّ نفسه لم يكن له ذلك، فلئلَّا يكون له ذلك في حقِّ غيره أولى، فصحَّ أنَّها لا تجبر عليه أصلًا.
          ومن ردَّ الأمر في ذلك إلى(9) العادة والعرف، فلأنَّ ذلك أصلٌ محكومٌ به في نفقته عليها وخدمتها له(10)، فكذلك في الرضاع إذا كانت ممَّن ترضع أو لا ترضع.


[1] قوله: ((قوله)) ليس في (ص).
[2] في (ص): ((نهى النبي ◙)).
[3] في (ص): ((برضاعهن)).
[4] قوله: ((وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ)) ليس في (ص).
[5] قوله: ((وكذلك إن كان الطلاق ثلاثًا فعليه أجر الرضاع)) ليس في (ص).
[6] في (ص): ((فقال)).
[7] في (ص): ((الكوفيون والثوري)).
[8] قوله: ((والكسوة، والزوجية قائمة، فلم يجمع لهما النفقة)) ليس في (ص).
[9] صورتها في (ص): ((وممن رد إلا أي ذلك)).
[10] في (ص): ((وخدمته لها)).