شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا}

          ░50▒ بَاب قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} إلى قَوْلِهِ(1): {خَبِيرٌ}[البقرة:234]
          فيه: مُجَاهِدٌ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا}[البقرة:234]قَالَ: كَانَتْ هَذِهِ الْعِدَّةُ، تَعْتَدُّ عِنْدَ أَهْلِ(2) زَوْجِهَا وَاجِبًا، فَأَنْزَلَ اللهُ ╡: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِمْ} إلى {مَعْرُوفٍ}[البقرة:240]، قَالَ: جَعَلَ اللهُ لَهَا تَمَامَ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، وَصِيَّةً إِنْ شَاءَتْ سَكَنَتْ(3) في وَصِيَّتِهَا، وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ، وَهُوَ قَوْلُ اللهِ ╡: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}[البقرة:240]، فَالْعِدَّةُ كَمَا هِيَ وَاجِبةٌ عَلَيْهَا زَعَمَ ذَلِكَ مُجَاهِدٌ. [خ¦5344]
          وَقَالَ عَطَاءٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَسَخَتْ هَذِهِ الآيَةُ عِدَّتَهَا عِنْدَ أَهْلِهَا، فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ، وَقَوْلُه: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} قَالَ عَطَاءٌ: إِنْ شَاءَتِ اعْتَدَّتْ عِنْدَ أَهْلِهَا وَسَكَنَتْ في وَصِيَّتِهَا، وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ لِقَوْلِ اللهِ تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ}[البقرة:240]، قَالَ عَطَاءٌ: ثُمَّ جَاءَ الْمِيرَاثُ فَنَسَخَ السُّكْنَى فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ، وَلا سُكْنَى لَهَا.
          فيه: أُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أبي سُفْيَانَ: لَمَّا جَاءَهَا نَعِيُّ أَبِيهَا، دَعَتْ بِطِيبٍ، فَمَسَحَتْ ذِرَاعَيْهَا، وَقَالَتْ: مَا لي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ النَّبيَّ يَقُولُ: (لَا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ تُحِدُّ على مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثٍ، إِلَّا على زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا). [خ¦5345]
          قال المؤلِّف: ذهب مجاهدٌ إلى أنَّ الآية التي فيها: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}[البقرة:234]، إنَّما نزلت قبل الآية التي فيها: {وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إلى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ}[البقرة:240]، كما هي قبلها في التلاوة، ولم يجعل آية الحول منسوخةً بالأربعة أشهرٍ وعشرًا، وأشكل عليه المعنى؛ لأنَّ المنسوخ لا يمكن استعماله مع الناسخ، ورأى أنَّ استعمال هاتين الآيتين ممكنٌ، إذ حكمهما غير مدافعٍ، ويجوز أن يوجب الله تعالى على المعتدَّة التربُّص أربعة أشهرٍ وعشرًا لا تخرج فيها من بيتها فرضًا عليها، بأمر(4) أهله أن تبقى سبعة أشهرٍ وعشرين ليلةً _تمام الحول_ إن شاءت، أو تخرج إن شاءت وصيَّةً لها؛ لقوله تعالى: {وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إلى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فلا جُنَاحَ عليكُم فيمَا فَعَلْنَ في أَنفُسِهِنَّ(5)}[البقرة:240].
          فحصل لها فائدتان في استعمال الآيتين، ورأى ألَّا يسقط حكمًا في كتاب الله يمكنه استعماله، ولا يتبيَّن له نسخه، وهذا قول لم يقله أحدٌ من المفسِّرين للقرآن غيره، ولا تابعه عليه أحدٌ من فقهاء الأمَّة، بل اتَّفق جماعة المفسِّرين وكافَّة الفقهاء أنَّ قوله تعالى: {متاعًا إِلَى الحَولِ غَيرَ إِخْرَاجٍ}[البقرة:240]، منسوخٌ بقوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}[البقرة:234]، ويشهد لذلك قوله صلعم في حديث زينب بنت أبي سلمة: ((وقد كانت إحداكنَّ ترمي بالبعرة على رأس الحول)).
          وممَّا يدلُّ على خطأ مجاهدٍ أنَّ الله تعالى إنَّما أوجب السكنى للمتوفَّى عنهنَّ أزواجهنَّ عند من رأى إيجابه في العدة خاصَّةً، وهي الأربعة أشهرٍ وعشرًا، وما زاد عليها فالأمَّة متَّفقة أنَّ المرأة فيها أجنبيَّةٌ من زوجها لا سكنى لها ولا غيره، شاءت أو لم تشأ، وكيف يجوز أن تبقى في بيت زوجها بعد العدَّة إن شاءت وهي غير زوجةٍ منه، ولا في بطنها حملٌ يوجب حبسها به، ومنعها من الأزواج حتَّى تضعه.
          وأيضًا فإنَّ التسكين إنَّما كان في الحول حين كانت العدَّة حولًا والسكنى مرتبطةٌ بها، فلمَّا نسخ الله تعالى الحول بالأربعة أشهرٍ وعشرًا، استحال أن يكون سكنى في غير عدَّةٍ، والله الموفِّق.
          وأمَّا ابن عبَّاسٍ، فإنَّه دفع السكنى للمتوفَّى عنها زوجها، وقال: قوله ╡: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}[البقرة:234]، ولم يقل: يعتددن في بيوتهنَّ، ولتعتدَّ حيث شاءت، وذهب إلى قول ابن عبَّاسٍ: أنَّ المتوفَّى عنها زوجها تعتدُّ حيث شاءت، عليُّ بن أبي طالبٍ وعائشة وجابرٌ، ومن حجَّتهم أنَّ السكنى إنَّما وردت في المطلَّقة، وبذلك نطق القرآن، وإيجاب السكنى إيجاب حكمٍ، والأحكام لا تجب / إلَّا بنصِّ كتابٍ أو سنَّةٍ أو إجماعٍ، وقد ذكرت اختلاف أهل العلم في ذلك في باب قصَّة فاطمة بنت قيسٍ، فأغنى عن إعادته(6). [خ¦5322]
          وقال إسماعيل بن إسحاق: أمَّا قول ابن عبَّاسٍ في قوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}[البقرة:234]، ولم يقل: في بيتها، فمثل هذا يجوز أن لا يُبيَّن في ذلك الموضع، ويبيَّن في غيره، وقد قال الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ}[البقرة:228]، ولم يقل في هذا الموضع أنَّها(7) تتربَّص في بيتها، ثمَّ قال في أمر المطلَّقة في الموضع الآخر: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ(8)}[الطلاق:1]، وقال تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ}[الطلاق:6]، فبيَّن في هذا الموضع ما لم يذكر في ذلك الموضع، وقد بيَّن أمر المتوفَّى بما جاء في حديث الفريعة، وعمل به جملة أهل العلم، ورأينا المتوفَّى عنها احتيط في أمرها في العدَّة بأكثر ما احتيط في المطلَّقة؛ لأنَّ المطلَّقة إن لم يدخل بها فلا عدَّة عليها، و على المتوفَّى عنها العدَّة دخل بها أم لا، ويمكن ذلك _والله أعلم_ لأنَّ الدخول قد يكون ولا يعلم به الناس، فإذا كان الزوج حيًّا ذكر ذلك وطالب به، وأمكن أن يبيِّن حجَّةً(9) فيه، والميِّت قد انقطع عن ذلك، وليس ينبغي في النظر إذا كانت المتوفَّى عنها قد جعلت عليها العدَّة في الموضع الذي لم يجعل على المطلَّقة، أن(10) تكون السكنى على المطلَّقة، ولا تكون على المتوفَّى عنها لما في السكنى من الاحتياط في أمر المرأة وما يلحق من النسب.
          وروى وكيعٌ، عن أبي جعفرٍ الرازيِّ، عن الربيع بن أنسٍ، عن أبي العالية، أنَّه سُئل: لم ضُمَّت العشر إلى الأربعة أشهرٍ؟ قال: لأنَّ الروح تنفخ فيها في العاشر.
          فأمَّا إن كان المسكن يكرى قدَّمه الميِّت، فلها أن تسكن في عدَّتها، وإن كان لم يقدِّم الكرى وأخرجها ربُّ الدار لم تكن لها سكنى في مال الزوج، هذا قول مالكٍ، و على قول الكوفيِّين والشافعيِّ أنَّه لا سكنى للمتوفَّى عنها في مال زوجها إن لم يخلِّف مسكنًا؛ لأنَّ المال صار للورثة، حاملًا كانت أو غير حاملٍ، ولا نفقة لها، وأوجب مالكٌ لها السكنى إن كانت حاملًا من مال الميِّت ونفقتها من مالها؛ لقوله(11): {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}[البقرة:234]، فكان الواجب على ظاهر الآية أن تتربَّص المتوفَّى عنها زوجها أربعة أشهرٍ وعشرًا تفعل فيها ما كانت تفعل قبل وفاته، فلمَّا ثبت عن النبيِّ صلعم أنَّه قال: ((لَا يحلُّ لامرأةٍ تؤمن بالله واليوم الآخر تحدُّ على ميِّت فوق ثلاثٍ إلَّا على زوجٍ))، وجب اتِّباعه لتفسيره لما أجمل في الآية.
          وقال الخطَّابيُّ: قوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}[البقرة:234]، يريد _والله أعلم_ الأيَّام بلياليها. وقال المبرِّد: إنَّما أتت العشر لأنَّ المراد به المدَّة، وذهب مالكٌ والكوفيُّون والشافعيُّ أنَّ المراد(12): الأيَّام والليالي. قال ابن المنذر: فلو عقد عاقدٌ عليها النكاح على هذا القول وقد مضت أربعة أشهرٍ وعشر ليالٍ كان باطلًا حتَّى يمضي اليوم العاشر، وذهب بعض الفقهاء إلى أنَّه إن انقضى لها أربعة أشهرٍ وعشر ليالٍ حلَّت للأزواج، وذلك لأنَّه رأى العدَّة مبهمةً، فغلَّب التأنيث وتأوَّلها على الليالي، وإليه ذهب الأوزاعيُّ من الفقهاء، وأبو بكرٍ الأصمُّ من المتكلِّمين، ويقال: إنَّهما اعتبرا أنَّ إنشاء التاريخ من الليالي؛ لأنَّ الأهلَّة تستهلُّ فيها.


[1] قوله: ((قوله)) ليس في (ص).
[2] قوله: ((عِنْدَ أَهْلِ)) ليس في (ص).
[3] قوله: ((سكنت)) ليس في (ص).
[4] في (ص): ((ثم يأمر)).
[5] قوله: ((فلا جُنَاحَ عليكُم فيمَا فَعَلْنَ في أَنفُسِهِنَّ)) ليس في (ص).
[6] قوله: ((بنت قيس، فأغنى عن إعادته)) ليس في (ص).
[7] قوله: ((أنها)) ليس في (ص).
[8] قوله: ((وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ)) ليس في (ص).
[9] في (ص): ((حجته)).
[10] في (ص): ((أو)).
[11] قوله: ((لقوله)) ليس في (ص).
[12] زاد في (ص): ((به)).