شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب المتعة للتي لم يفرض لها

          ░53▒ بَاب الْمُتْعَةِ لِلَّتِي لَمْ يُفْرَضْ لَهَا
          لِقَوْلِهِ تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} الآية[البقرة:236]، وَقَوْلِهِ: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ}[البقرة:241]
          وَلَمْ يَذْكُرِ النَّبيُّ صلعم في الْمُلاعَنَةِ مُتْعَةً حِينَ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا
          فيه: ابْنُ عُمَر: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم قَالَ لِلْمُتَلاعِنَيْنِ: حِسَابُكُمَا على اللهِ، أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ، لا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا. قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَالِي؟ قَالَ: لا مَالَ لَكَ، إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا، فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا، فَذَاكَ أَبْعَدُ وَأَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا). [خ¦5350]
          اختلف العلماء في المتعة، فقالت طائفةٌ: المتعة واجبةٌ للمطلَّقة التي لم يدخل بها ولم يسمِّ لها صداقًا، روي ذلك عن ابن عبَّاسٍ وابن عمر، وهو قول عطاءٍ والشَّعبيِّ والنخعيِّ والزهريِّ، وبه قال الكوفيُّون، ولا يجمع مهرٌ مع المتعة.
          وقالت طائفةٌ: لكلِّ مطلَّقةٍ متعةٌ مدخولًا بها كانت أو غير مدخولٍ بها، إذا وقع الفراق من قبله ولم يتمَّ إلَّا به إلَّا للتي سمَّى لها وطلَّقها قبل الدخول، هذا قول الشافعيِّ وأبي ثورٍ، وروي عن عليِّ بن أبي طالبٍ: لكلِّ مطلَّقةٍ متعةٌ، وروي مثله عن الحسن وأبي قِلابة وطائفةٍ، وحجَّتهم عموم قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ}[البقرة:241]، ولم يخصَّ.
          وقالت طائفةٌ: المتعة ليست بواجبةٍ في موضعٍ من المواضع، هذا قول ابن أبي ليلى وأبي الزناد وربيعة، وهو قول مالكٍ والليث وابن أبي سلمة.
          واحتجَّ الشافعيُّ بما روي مالكٌ، عن نافعٍ، عن ابن عمر أنَّه قال: لكلِّ مطلَّقةٍ متعةٌ، إلَّا التي فُرِض لها مهرٌ، وقد طُلِّقَت ولم يدخل بها(1) فحسبها نصف المهر، وقال الشافعيُّ: وأحسب ابن عمر استدلَّ بقوله تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ(2)}[البقرة:237]، فاستدلَّ بالقرآن على أنَّها مخرجةٌ من جميع المطلَّقات.
          ولعلَّه رأى أنَّه إنَّما أريد أن تكون المطلَّقة تأخذ بما استمتع به زوجها منها عند طلاقه شيئًا، فلمَّا كانت المدخول بها تأخذ شيئًا، وغير المدخول بها تأخذ أيضًا إذا(3) لم يفرض لها، وكانت التي لم يدخل بها وقد فرض لها تأخذ بحكم الله نصف المهر، وهو أكثر من المتعة، ولم يستمتع منها بشيءٍ، فلم تجب لها متعةٌ.
          وقال أبو عبيدٍ: حجَّة الكوفيِّين: وجدنا النساء في المتعة على ثلاثة ضروبٍ، فكانت الآية التي فيها ذكر المتَّقين لصنفين منهم وهم(4) المطلَّقات بعد الدخول، إن كان فُرِض لهنَّ صداقٌ أو لم يُفرَض، والمطلَّقات قبل الدخول مع تسمية صدقاتهنَّ، فلأولئك المهور كوامل بالمسيس، ولهؤلاء الشطور(5) منها بالتسمية، فلمَّا صار هذان الحقَّان واجبين، كانت المتعة حينئذٍ تقوًى من الله ╡ غير واجبةٍ، ووجدنا الآية التي فيها ذكر الموسع(6) والمقتر هي للصنف الثالث، وهنَّ المطلَّقات(7) من غير دخولٍ بهنَّ ولا فُرِض لهنَّ، وذلك قوله تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ(8)}الآية[البقرة:236]، فصارت المتعة لهنَّ حتمًا واجبًا، ولولا هذه المتعة لصار عقد النكاح إذًا يذهب باطلًا من أجل أنهنَّ لم يمسسن، فيستحققن الصدقات(9) ولم يُفرَض لهنَّ، فيستحققن أيضًا فيها، فلابدَّ من المتعة على كلِّ حالٍ.
          واحتجَّ من لم يوجب المتعة أصلًا فقال: قوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ(10)}[البقرة:236]، وإن كان ظاهره الوجوب، فقد قرن به ما يدلُّ على الاستحباب، / وذلك أنَّه تعالى فرَّق(11) بين المعسر والموسر، والواجبات في النكاح على ضربين: إمَّا أن يكون على حسب حال المنكوحات كالصداق الذي يرجع فيه إلى صداق مثلها، أو يكون على حسب حالهما جميعًا كالنفقات، والمتعة خارجةٌ من هذين المعنيين؛ لأنَّه اعتبر فيها حال الرجل وحده بأن يكون على الموسر أكثر ممَّا على المعسر، وأيضًا فإنَّ المتعة لو كانت فرضًا كانت مقدَّرةً معلومة كسائر الفرائض في الأموال، ولم نر فرضًا واجبًا في المال غير معلومٍ، فلمَّا لم تكن كذلك خرجت من حدِّ الفرائض إلى حدِّ النَّدب، وصارت كالصلة والهديَّة، وأيضًا فإنَّ الله تعالى لمَّا علَّقها بقومٍ دلَّ على أنَّها غير واجبةٍ؛ لأنَّ الواجبات ما لزمت الناس عمومًا كالصلاة والصيام والحجِّ والزكاة، فلمَّا قال تعالى: {حَقًّا على الْمُحْسِنِينَ}[البقرة:236]، و {حَقًّا على الْمُتَّقِينَ}[البقرة:180]، سقط وجوبها عن غيرهم.
          وكذلك تأوَّله شريحٌ، فقال لرجل: متِّع إن كنت محسنًا، متِّع إن كنت متَّقيًا.
          وقول البخاريِّ: (وَلَمْ يَذْكُرِ النَّبِيُّ صلعم فِي المُلاَعَنَةِ مُتْعَةً حِينَ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا)، حجَّةٌ لمن قال: لكلِّ مطلَّقةٍ متعةٌ، والملاعنة غير داخلةٍ في جملة المطلَّقات، فلا متعة لها عند مالكٍ والشافعيِّ.
          قال ابن القاسم: لا متعة في كلِّ نكاحٍ مفسوخٍ، والتلاعن عندهم كالفسخ؛ لأنَّهما لا يقرَّان على النكاح، فأشبه الردَّة، قال: وكلُّ فرقةٍ كانت من قبل المرأة قبل البناء وبعده فلا متعة فيها.
          وأوجب الشافعيُّ للمختلعة والمُبارئَة(12) متعةً. وقال أصحاب مالكٍ: كيف يكون للمفتدية متعةٌ وهي تعطي، فكيف تأخذ متاعًا؟!
          وقال ابن المنذر: قوله تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً}[البقرة:236]، دليلٌ على إباحة نكاح المرأة ولا يفرض لها صداقًا، ثمَّ يفرض لها إن مات أو دخل عليها مهر مثلها.
          واختلفوا إن مات ولم يفرض لها، فقالت طائفةٌ: لها مهر مثلها ولها الميراث وعليها العدَّة، روي هذا عن ابن مسعودٍ، وبه قال ابن أبي ليلى والثوريُّ والكوفيُّون وأحمد وإسحاق وأبو ثورٍ.
          وقالت طائفةٌ: لها الميراث وعليها العدَّة ولا مهر لها، روي هذا عن عليِّ بن أبي طالبٍ وزيد بن ثابتٍ وابن عبَّاسٍ وابن عمر، وبه قال مالكٌ والأوزاعيُّ والشافعيُّ، واستحبَّ مالكٌ ألَّا يدخل عليها حتَّى يقدِّم لها شيئًا أقلُّه ربع دينار.


[1] قوله: ((وقد طلقت ولم يدخل بها)) ليس في (ص).
[2] قوله: ((فنصف ما فرضتم)) زيادة من (ص).
[3] قوله: ((إذ)) ليس في (ص).
[4] في (ص): ((ذكر المعين نصفين منهن هُن)).
[5] في (ص): ((الشطر)).
[6] في (ص): ((الموسر)).
[7] في (ص): ((وهي للمطلقات)).
[8] قوله: ((مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ)) ليس في (ص).
[9] في (ص): ((الأصدقة)).
[10] في (ز) و(ص): ((فمتعوهن)) والمثبت من التنزيل.
[11] في (ص): ((قرن)).
[12] في (ص): ((البارية)). قال مالك في المدونة (2/249): ((المبارئة)) التي تبارئ زوجها قبل أن يدخل بها.