شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب المهر للمدخول عليها

          ░52▒ بَاب إِرْخَاءِ السُّتُورِ(1) والْمَهْرِ لِلْمَدْخُولِ عَلَيْهَا
          وَكَيْفَ الدُّخُولُ أَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَالْمَسِيسِ؟
          فيه: ابْنُ عُمَرَ: (فَرَّقَ النَّبيُّ صلعم بَيْنَ أَخَوَيْ بني الْعَجْلانِ، وَقَالَ: اللهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟)الحديث، (فَقَالَ الرَّجُلُ: مَالِي؟ قَالَ: لا مَالَ لَكَ، إِنْ كُنْتَ صَادِقًا، فَقَدْ دَخَلْتَ بِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا، فَهُوَ أَبْعَدُ مِنْكَ). [خ¦5349]
          اختلف العلماء في الدخول وبما يثبت؟ فقالت طائفةٌ: إذا أغلق بابًا أو أرخى سترًا على المرأة فقد وجب الصداق والعدَّة، روي ذلك عن عُمَر بن الخطَّاب وعليِّ بن أبي طالبٍ وزيد بن ثابتٍ ومعاذ بن جبلٍ وابن عمر، وهو قول الكوفيِّين والثوريِّ والليث والأوزاعيِّ وأحمد، واحتجُّوا بقوله ◙: (إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَقَدْ دَخَلتَ بِهَا)، قالوا: فجعل النبيُّ صلعم الدخول بالمرأة دليلًا على الجماع، وإن كان قد(2) لا يقع الجماع مع الدخول، لكن حمله صلعم على ما يقع في الأكثر، وهو الجماع لما ركَّب الله سبحانه في نفوس عباده من شهوة النساء.
          قال الكوفيُّون: فالخلوة الصحيحة يجب معها المهر كلُّه بعد الطلاق، وطئ أو لم يطأ، إن ادَّعته أو لم تدَّعه، إلَّا أن يكون أحدهما مُحرِمًا أو مريضًا أو صائمًا، أو كانت المرأة حائضًا، فإن كانت الخلوة في مثل هذه الحال ثمَّ طلَّق لم يجب إلَّا نصف المهر، وعليها العدَّة عندهم في جميع هذه الوجوه.
          وقالت طائفةٌ: لا يجب المهر إلَّا بالمسيس، روي ذلك عن ابن مسعودٍ وابن عبَّاسٍ، وبه قال شريحٌ والشَّعبيُّ وابن سيرين، وإليه ذهب الشافعيُّ وأبو ثورٍ، واحتجُّوا بقوله تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ(3)}[البقرة:237]وقال تعالى: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا}[الأحزاب:49]، فأخبر الله تعالى أنَّها تستحقُّ بالطلاق قبل المسيس نصف ما فرض لها، وأوجب العدَّة بالمسيس، ولا تعرف الخلوة دون وطءٍ مسيسًا، ومن حجَّة هذا القول رواية من روى في هذا الحديث: ((إن كنت صدقت عليها فبما استحللت من فرجها))، ذكره في باب قول الإمام للمتلاعنين: إنَّ أحدكما كاذبٌ.
          وفيها قولٌ ثالثٌ: قال سعيد بن المسيِّب: إذا دخل بالمرأة في بيتها صدق عليها، وإذا دخلت عليه في بيته صدقت عليه، وهو قول مالكٍ، / واحتجَّ أصحابه فقالوا: تفسير قول سعيد بن المسيِّب: أنَّها تصدق عليه في بيته؛ لأنَّ البيت في البناء بيت الرجل وعليه الإسكان، فدخولها في بيته هو دخول بناء، ومعنى قوله: في بيتها، يريد: إذا زارها في بيتها عند أهلها أو وجدها ولم يدخل عليها دخول بناء، فادَّعت أنَّه مسَّها وأنكر فالقول قوله؛ لأنَّه مدَّعى عليه، وهذا أصله في المتداعيين(4) أنَّ القول قول من شبهته قويَّةٌ كاليد وشبهها.
          قال مالكٌ: فإذا دخل بها فقبَّلها أو كشفها واتَّفقا أنَّه لم يمسها، فلها نصف الصداق إن كان ذلك قريبًا، وإن تطاول مكثه معها ثمَّ طلَّقها، فلها المهر كاملًا، وعليها العدَّة أبدًا. وروى ابن وهبٍ، عن مالكٍ أنَّه رجع عن قوله في «الموطَّأ»، وقال(5): إذا خلا بها حيث كان فالقول قول المرأة.
          وذكر ابن القصَّار عن الشافعيِّ أنَّه إذا دخل بها، فقال: لم أطأ، وقالت: وطأني، فالقول قول الزوج؛ لأنَّ الخلوة غير المسيس الذي يوجب المهر.
          وروى ابن عليَّة، عن عوفٍ، عن زرارة بن أوفى، قال: مضى الخلفاء الراشدون المهديُّون أنَّه من أغلق بابًا أو أرخى سترًا فقد وجب العدَّة والمهر(6)، بهذا احتجَّ الكوفيُّون بأنَّه معلومٌ أنَّه لا يرخي الستر في الغالب إلَّا للوطء، فهي دلالةٌ عليه.
          وقوله في الترجمة: (وَكَيفَ الدُّخُولُ أَو طَلَّقَهَا قَبلَ الدُّخُولِ)، تقديره: أو كيف طلاقها؟ فاكتفى بذكر الفعل عن ذكر المصدر لدلالته عليه، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. تُؤْمِنُونَ}[الصف:10-11]، فأقام {تُؤْمِنُونَ}، وهو فعلٌ(7) مقام الإيمان وهو مصدرٌ.


[1] في (ص): ((الستر)). وقوله بعدها: ((عليها)) ليس فيها.
[2] قوله: ((قد)) ليس في (ص).
[3] قوله: ((وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ)) ليس في (ص)، وزاد في(ص): ((الآية)).
[4] في (ص): ((المتداعين)).
[5] في (ص): ((فقال)).
[6] في (ص): ((المهر والعدة)).
[7] في (ص): ((معلوم)).