شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الكحل للحادة

          ░47▒ بَاب الْكُحْلِ لِلْحَادَّةِ
          فيه: زَيْنَبُ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّهَا: (أَنَّ امْرَأَةً تُوُفِّيَ زَوْجُهَا فَخَشُوا على عَيْنَيْهَا، فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ فَاسْتَأْذَنُوهُ في الْكُحْلِ، فَقَالَ: لا تَكْتَحِلْ، قَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ تَمْكُثُ في شَرِّ أَحْلاسِهَا _أَوْ شَرِّ بَيْتِهَا_ فَإِذَا كَانَ حَوْلًا، فَمَرَّ كَلْبٌ) الحديث. [خ¦5338] [خ¦5339]
          وفيه: أُمُّ عَطِيَّةَ: (نُهِينَا أَنْ نُحِدَّ على مَيِّتٍ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاثٍ إِلَّا على زَوْجٍ)(1).
          قال المؤلِّف: روى مالكٌ أنَّه بلغه: أنَّ رسول الله صلعم دخل على أمِّ سلمة وهي حادَّةٌ على أبي سلمة، وقد جعلت على عينها صبرًا، فقال: ((ما هذا يا أمَّ سلمة؟!)) قالت: إنَّما هو صبرٌ يا رسول الله، قال: ((فاجعليه بالليل وامسحيه بالنهار))، وهذا مخالفٌ لحديث هذا الباب؛ لأنَّ النبيَّ صلعم لم يُرخِّص لبنت أمِّ سلمة حين توفِّي عنها زوجها في الكحل ليلًا ولا نهارًا.
          قال أبو عبد الله بن أبي صُفرة: والجمع بين الحديثين أنَّ النبيَّ صلعم إنَّما نهى عن الطيب والزينة في العدَّة قطعًا للذرائع؛ لأنَّ ذلك من دواعي التزويج التي منعت منه حتَّى تخرج من العدَّة احتياطًا للميِّت، إذ قد زالت مراعاته لها، لكن إذا دخل(2) على الناس المشقَّة من قطعها رفعت(3)، ودلَّت إباحته صلعم للكحل بالليل أنَّ نهيه عنه في الحديث الآخر ليس على وجه التحريم، وإنَّما هو على الكراهية، فمن شاء أخذ بالشدَّة على نفسه كما فعلت صفيَّة بنت أبي عبيدٍ في ترك الكحل حتَّى كادت عيناها ترمضان، ومن شاء أخذ بالرخصة في ذلك.
          فقد أجاز ذلك جماعةٌ من السلف، ذكر مالكٌ في «الموطَّأ» أنَّه بلغه عن سالم بن عبد الله، وسليمان بن يسارٍ، أنَّهما أجازا للمتوفَّى عنها زوجها إذا خشيت على بصرها من شكوى بها أن تكتحل وتتداوى بما فيه طيبٌ. قال مالكٌ: فإذا كانت الضرورة، فإنَّ دين الله يسرٌ.
          وقد قال في «المختصر الصغير»: لا تكتحل إلَّا أن تضطر إليه من غير طيبٍ يكون فيه.
          وقال الشافعيُّ: كلُّ كحلٍ فيه زينةٌ للعين مثل الإثمد وشبهه، فلا خير فيه، وأمَّا الفارسيُّ وشبهه عند الضرورة، فلا بأس به؛ لأنَّه ليس بزينةٍ بل يزيد العين قبحًا، وما اضطر إليه ممَّا فيه زينةٌ اكتحلت به ليلًا ومسحته نهارًا، واحتجَّ ببلاغ(4) مالكٍ، عن أمِّ سلمة.
          قال الشافعيُّ: فالصبر يصفِّر العين، فيكون زينةً وليس بطيبٍ، فأذن لها النبيُّ صلعم فيه بالليل حتَّى لا ترى، فكذلك ما أشبهه. وذكر ابن المنذر قال: رخَّص في الكحل عند الضرورة عطاءٌ والنخعيُّ، وهو قول مالكٍ والكوفيِّين، قالوا: لا بأس بالكحل الأسود وغيره إذا اشتكت عينها(5). /


[1] قوله: ((وفيه: أُمُّ عَطِيَّةَ: نُهِينَا أَنْ نُحِدَّ على مَيِّتٍ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاثٍ إِلا على زَوْجٍ)) ليس في (ص).
[2] في (ص): ((دخلت)).
[3] زاد في (ص): ((عنهم)).
[4] في (ص): ((بذلك)).
[5] قوله: ((مالك، عن أم سلمة. قال الشافعي: فالصبر.... إذا اشتكت عينها)) ليس في (ص).