شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: {وبعولتهن أحق بردهن}

          ░44▒ بَاب قَولِ اللهِ تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ في ذلك}[البقرة:228]
          أي في الْعِدَّةِ، وَكَيْفَ تُرَاجِعُ الْمَرْأَةَ إِذَا طَلَّقَهَا وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ(1)؟
          فيه: مَعْقِلٌ: (أَنَّ أُخْتَهُ كَانَتْ تَحْتَ رَجُلٍ، فَطَلَّقَهَا، ثُمَّ خَلَّا عَنْهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، ثُمَّ خَطَبَهَا، فَحَمِيَ مَعْقِلٌ مِنْ ذَلِكَ أَنَفًا، فَقَالَ: خَلَّا عَنْهَا، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهَا، ثُمَّ يَخْطُبُهَا، فَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَأَنْزَلَ اللهُ: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ}[البقرة:231]فَدَعَاهُ رَسُولُ اللهِ صلعم فَقَرَأَ عَلَيْهِ، فَتَرَكَ الْحَمِيَّةَ، وَاسْتَرادَّ لأمْرِ اللهِ). [خ¦5331]
          وفيه: ابْنُ عُمَرَ: (أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأته وَهي حَائِضٌ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلعم أَنْ يُرَاجِعَهَا، ثُمَّ يُمْسِكَهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ عِنْدَهُ حَيْضَةً، أُخْرَى، ثُمَّ يُمْهِلَهَا حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ حَيْضِتهَا، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا، فَلْيُطَلِّقْهَا حِينَ تَطْهُرُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُجَامِعَهَا، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ التي أَمَرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ) الحديث. [خ¦5332]
          وترجم لحديث ابن عمر: باب مراجعة الحائض.
          قال أهل التفسير في قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ}[البقرة:228]، أي في العدَّة، هذا قول النَّخَعِيِّ وقَتادة ومجاهدٍ.
          وأمَّا قول البخاريِّ: (وَكَيفَ تُرَاجَعُ المَرأَةُ إِذَا طَلَّقَهَا وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ؟) فالمراجعة على ضربين: مراجعةٌ في العدَّة على حديث ابن عمر، ومراجعةٌ بعد العدَّة على حديث مَعْقِلٍ، وأجمع العلماء أنَّ الحرَّ إذا طلَّق زوجته الحرَّة وكانت(2) مدخولًا بها تطليقةً أو تطليقتين أنَّه أحقُّ برجعتها حتَّى تنقضي عدَّتها وإن كرهت المرأة.
          وكذلك قال المفسِّرون في قوله تعالى: {لَا تَدْرِي(3) لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}[الطلاق:1]أنَّه الرجعة، ولذلك كان ابن عمر يقول: لو طلَّقت مرَّةً أو مرَّتين خشية أن يبدوا لي في مراجعتها، وهو قد بتَّ طلاقها فلا يمكنه، فإن لم يراجعها المطلِّق للسنَّة حتَّى انقضت عدَّتها فهي أحقُّ بنفسها، وتصير أجنبيَّةً منه لا تحلُّ إلَّا بخطبةٍ ونكاحٍ مستأنفٍ بوليٍّ وإشهادٍ، ليس على سُنَّة المراجعة، هذا إجماعٌ من العلماء.
          قال المُهَلَّب وغيره: وعلى هذا جاء حديث(4) مَعْقِل بن يسارٍ، ألا ترى أنَّ زوج أخته لو راجعها في العدَّة كان أملك بها، فلمَّا انقضت عدَّتها وصارت أجنبيَّةً منه أحبَّ مراجعتها فعضلها أخوها ومنعها نكاحه، ولم يجز له عضلها إِنْ ذلك كان مباحًا له(5)، ولم يجز لزوجها أن يردَّها بعد ذلك إلَّا بنكاحٍ جديدٍ وصداقٍ وإشهادٍ، فهذا معنى حديث مَعْقِلٍ في هذا الباب.
          وأمَّا حديث ابن عمر ففيه خلاف هذا المعنى، وذلك أنَّ النَّبيَّ صلعم أمره بمراجعتها في تلك الحيضة التي طلَّقها فيها، ولم يذكر في الحديث أنَّه احتاج إلى صداقٍ ولا وليٍّ من أجل أنَّ النبيَّ صلعم حين أمره بارتجاعها لم يذكر رضاها ولا رضا وليِّها؛ لأنَّه إنَّما يردُّ من لم تقطع عصمته منها، ولو احتيج إلى ذلك لم يكن ابن عمر المأمور بذلك وحده دون المرأة والوليِّ، فكان هذا حكم كلِّ من راجع في العدَّة أنَّه لا يلزمه شيءٌ من أحكام النكاح غير الإشهاد على المراجعة فقط(6)، وهذا إجماعٌ من العلماء، وإنَّما لم يلزمه شيءٌ من فروض النكاح؛ لأنَّ المطلِّق للسنَّة لم يدخل على نكاحه ما ينقضه، وإنَّما أحدث فيه ثَلمةً، فإذا راجعها في العدَّة فقد سدَّ تلك الثَّلمة، ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ}[البقرة:228]، يعني: في العدَّة، {إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا}[البقرة:228]، يعني: الرجعة، فجعل لهم تعالى الرجعة دون استئذان / النساء ودون اشتراط شيءٍ من فروض النكاح.
          ولم يختلف العلماء أنَّ السنَّة في الرجعة أن تكون بالإشهاد عليها؛ لأنَّ الله تعالى ذكر الإشهاد في الرجعة، ولم يذكره في النكاح ولا في الطلاق، فقال في الرجعة: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ}[الطلاق:2].
          واختلفوا فيما يكون به الرجل مراجعًا في العدَّة للمطلَّقة واحدةً أو اثنتين، فقالت طائفةٌ: إذا جامعها فقد راجعها، روي هذا عن ابن المسيِّب وعطاءٍ وطاوسٍ، وهو قول الأوزاعيِّ.
          وقال مالكٌ وإسحاق: إذا وطئها في العدَّة وهو يريد الرجعة وجهل أن يشهد فهي رجعةٌ، وينبغي للمرأة أن تمنعه الوطء حتَّى يشهد. وقال ابن أبي ليلى: إذا راجع ولم يشهد صحَّت الرجعة.
          وقال الكوفيُّون والثوريُّ: إن لمسها بشهوةٍ أو نظر إلى فرجها بشهوةٍ فهي رجعةٌ، وينبغي له أن يشهد.
          وقال الشافعيُّ: لا تكون رجعةً إلَّا بالكلام أن يقول: قد راجعتها، وهو قول أبي ثورٍ، وقال الشافعيُّ: إن جامعها ينوى الرجعة أو لا ينوى فليس برجعةٍ، ولها عليه مهر المثل، وليس هذا بصوابٍ؛ لأنَّها في حكم الزوجات وترثه ويرثها، فكيف يجب مهرٌ في وطء زوجةٍ؟!
          ولم يختلفوا فيمن باع جاريته بالخيار، ثمَّ وطئها في أيَّام الخيار أنَّه قد ارتجعها بذلك إلى ملكه، واختار نقض البيع، وللمطلَّقة الرجعيَّة حكمٌ من هذا.
          قال ابن المنذر: واختلفوا في مراجعة الحائض، فقال مالكٌ: ومن طلَّق امرأته وهي حائضٌ أو نفساء أُجبِر على رجعتها. وقال الكوفيُّون: ينبغي له أن يراجعها، وهو قول أبي ثورٍ(7)، وقال الشافعيُّ: لا يُجبَر على رجعتها.
          قال ابن المنذر: ويشبه أن تكون حجَّة من أجبره على الرجعة قوله صلعم لعمر: ((مره فليراجعها))، وأمره فرضٌ.
          قال المُهَلَّب: في حديث مَعْقِلٍ دليلٌ على أنَّه ليس للمرأة أن تنكح بغير إذن وليِّها، وأنَّه إذا عضلها فللسلطان أن يسأله ما الذي حمله على عضلها، ولا يفتأت عليه فيزوِّجها بغير أمره حتَّى يعرف معنى فعله، فربَّما عضلها لأمرٍ إن تمَّ عليه كانت(8) فيه غضاضةٌ عليه في عرضه، ألا ترى أنَّ النبيَّ صلعم ضمَّ معقلًا إلى العقد عليها بعد أن ثبت عضله لها، ولم يعقد لها ◙ دونه، ففي هذا حجَّةٌ لما يقوله جمهور العلماء أنَّ الولي من شرط النكاح.
          وقال أبو عبيدٍ: هذه الآية التي نزلت في قصَّة مَعْقِلٍ هي الأصل عندنا في إنكاح الأولياء؛ لأنَّه لو لم يكن لهم فيه حظٌّ ما كان لنهيهم عن عضلهنَّ معنًى.


[1] في (ص): ((اثنتين)).
[2] في (ص): ((وكان)).
[3] قوله: ((لا تدري)) ليس في (ص).
[4] في (ص): ((وعلى هذا أحاديث)).
[5] أي إن كان مباحًا للزوج مراجعتها دون عقد جديد.
[6] قوله: ((فقط)) ليس في (ص).
[7] قوله: ((وهو قول أبي ثور)) ليس في (ص).
[8] في (ص): ((كان)).