شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم}

          ░38▒ بَاب قوله: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ}[الطلاق:4]
          قَالَ مُجَاهِدٌ: وَإِنْ لَم تَعلَمُوا(1) يَحِضْنَ أَوْ لا يَحِضْنَ، وَاللائِي قَعَدْنَ عَنِ الْمَحِيضِ: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ}[الطلاق:4].
          وقوله: {وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}[الطلاق:4]
          فيه: أُمِّ سَلَمَةَ: (أَنَّ سُبَيْعَةُ، كَانَتْ تَحْتَ زَوْجِهَا، تُوُفِّيَ عَنْهَا، وَهِيَ حُبْلَى، فَخَطَبَهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ، فَأَبَتْ أَنْ تَنْكِحَهُ، فَقَالَ: وَاللهِ مَا يَصْلُحُ أَنْ تَنْكِحِيهِ حَتَّى تَعْتَدِّي آخِرَ الأجَلَيْنِ، فَمَكُثَتْ قَرِيبًا مِنْ عَشْرِ لَيَالٍ، ثُمَّ جَاءَتِ النَّبيَّ صلعم فَقَالَ: انْكِحِي). [خ¦5318]
          (وكَتَبَ ابْنِ الأرْقَمِ إلى سُبَيْعَة: كَيْفَ أَفْتَاهَا النَّبيُّ صلعم؟ فَقَالَتْ: أَفْتَانِي إِذَا وَضَعْتُ حملي أَنْ أَنْكِحَ).
          أجمع العلماء أنَّ عدَّة اليائسة من المحيض لكِبرٍ ثلاثة أشهرٍ، وأنَّ عدَّة التي لم تحض لصغرٍ ثلاثة أشهرٍ(2). / واختلفوا: إذا ارتفعت حيضة المرأة الشابَّة التي يمكن مثلها أن تحيض، فروي عن عمر أنَّه قال: أيُّما امرأةٍ طلقت فحاضت حيضةً أو حيضتين، ثمَّ رفعتها حيضتها أنَّها تنتظر تسعة أشهرٍ، فإن بان بها حملٌ وإلَّا اعتدَّت بعد التسعة الأشهر ثلاثة أشهرٍ ثمَّ حلَّت. وروي مثله عن ابن عبَّاسٍ، قال: عدَّة المرتابة سنةٌ، وروي عن الحسن البصريِّ، وهو قول مالكٍ والأوزاعيِّ.
          وروي ابن القاسم عن مالكٍ أنَّها(3) تعتدُّ من يوم رفعتها حيضتها لا من يوم طلقت تنتظر تسعة أشهرٍ، فإن لم تحض فيهنَّ اعتدَّت ثلاثة أشهرٍ، فإن حاضت قبل أن تستكمل الثلاثة أشهر استقبلت الحيض. وقال الأوزاعيُّ: إذا طلَّق امرأته وهي شابَّةٌ فارتفعت حيضتها، فلم تر شيئًا ثلاثة أشهر فإنَّها تعتدُّ سنةً.
          وقال أبو حنيفة والثوريُّ والليث والشافعيُّ في التي ترتفع حيضتها وهي غير يائسةٍ: أن عدَّتها الحيض أبدًا، وإن تباعد ما بين الحيضتين حتَّى تدخل في السنِّ التي لا يحيض في مثله أهلها من النساء، وتستأنف عدَّة اليائسة ثلاثة أشهرٍ، روي هذا عن ابن مسعودٍ وزيد بن ثابتٍ.
          وأخذ مالكٌ في ذلك بقول ابن عمر، وهو الذي رأى عليه الفتوى والعمل بالمدينة، وأخذ الكوفيُّون بظاهر القرآن، وظاهر القرآن لا مدخل فيه لذوات الأقراء في الاعتداد بالأشهر، وإنَّما تعتدُّ بالأشهر(4) اليائسة والصغيرة، فمن لم تكن يائسةً ولا صغيرةً فعدَّتها الأقراء وإن تباعدت.
          وحجَّة مالكٍ أنَّ المرتابة تعتدُّ بالأشهر لأنَّ في ذلك يظهر حملها على كلِّ حالٍ، فلا يمكن أن يستمرَّ الحمل في الشهر التاسع، فإذا استوقن أن لا حمل في هذه المدَّة، قيل: قد علمنا أنَّك لست مرتابةً، ولا من ذوات الأقراء، فاستأنفي ثلاثة أشهرٍ كما قال الله تعالى فيمن لسن من ذوات الأقراء قياسًا على أنَّ العدَّة بالشهور لصغرٍ إذا حاضت قبل تمام الثلاثة الأشهر علم أنَّها من ذوات الأقراء، فقيل لها: لتستأنف(5) الأقراء.
          وأمَّا قوله تعالى: {وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}[الطلاق:4]، فإنَّ إسماعيل بن إسحاق قال: قال(6) أكثر العلماء: والذي مضى عليه العمل أنَّها إذا وضعت حملها فقد انقضت عدَّتها، وذهبوا إلى أنَّ الآية قد عمَّت كلَّ معتدَّةٍ من طلاقٍ أو وفاةٍ إذ جاءت مجملةً لم يذكر فيها أنَّها للمطلَّقة خاصَّةً ولا للمتوفَّى عنها زوجها(7) خاصَّةً، فكانت عامَّةً في كلِّ معتدَّةٍ، فوجب أن تكون الأقراء والشهور الثلاثة للمطلَّقة إذا لم تكن حاملًا على ما جاء فيها من النصُّ، ووجب أن تكون الأربعة الأشهر(8) والعشر للمتوفَّى عنها إذا لم تكن حاملًا، ووجب أن تكون كلُّ ذات حملٍ مات عنها زوجها أو طلَّقها، فأجلها أن تضع حملها.
          قال غيره: وجاء حديث سبيعة شاهدًا لصحَّة هذا القول، وعليه العلماء بالحجاز والعراق والشام، لا أعلم فيه مخالفًا من السلف إلَّا ابن عبَّاسٍ ورواية عن عليٍّ فإنَّهما قالا في المتوفَّى عنها زوجها: عدَّتها آخر الأجلين أربعة أشهرٍ وعشرًا أو الوضع. وقال ابن مسعودٍ لما بلغه قول عليٍّ في ذلك: من شاء لاعنته بأنَّ(9) هذه الآية التي في سورة النساء القصرى: {وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}[الطلاق:4]، نزلت بعد التي في(10) البقرة: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}[البقرة:234]، ولولا حديث سبيعة وهذا البيان من رسول الله صلعم في هاتين الآيتين لكان القول ما قاله عليٌّ وابن عبَّاسٍ؛ لأنَّهما عدَّتان مجتمعتان فلا يخرج منهما إلَّا بيقين، واليقين في ذلك آخر الأجلين، ألا ترى إلى قول فقهاء الحجاز والعراق في أمِّ الولد يموت عنها زوجها ويموت سيِّدها، ولا تدري أيُّهما مات أوَّلًا أنَّ عليها عدَّتين أربعة أشهر وعشرًا فيها حيضةٍ عند الشافعيِّ، وذلك لها آخر الأجلين.
          وعند أبي حنيفة لا حيضة فيها، وعند أبي يوسف ومحمَّدٍ فيها ثلاث حيضٍ، إلَّا أنَّ السُنَّة وردت من ذلك في الحامل المتوفَّى عنها في سبيعة، ولو بلغت السنَّة عليًّا ما تركها، وأمَّا ابن عبَّاسٍ فقد روي عنه أنَّه رجع إلى حديث سبيعة بعد المنازعة منه، ويصحِّح ذلك أنَّ أصحابه عطاءً وعكرمة وجابر بن زيدٍ يقولون: إنَّها إذا وضعت حملها فقد حلَّت، ولو وضعت بعد موته بساعة.


[1] قوله: ((وإن لم تعلموا)) زيادة من (ص).
[2] قوله: ((وأن عدة التي لم تحض لصغر ثلاثة أشهر)) ليس في (ص).
[3] قوله: ((وروي ابن القاسم عن مالك أنها)) ليس في (ص).
[4] قوله: ((وإنما تعتد بالأشهر)) زيادة من (ص).
[5] في (ص): ((استأنفي)).
[6] قوله: ((قال)) ليس في (ص).
[7] قوله: ((زوجها)) زيادة من (ص).
[8] في (ز): ((أشهر)) والمثبت من (ص).
[9] في (ص): ((أن)).
[10] في (ص): ((في التي بعد)).