شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: تحد المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا

          ░46▒ بَاب تُحِدُّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا
          وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لا أَرَى أَنْ تَقْرَبَ الصَّبِيَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا الطِّيبَ، لأنَّ عَلَيْهَا الْعِدَّةَ.
          فيه: زَيْنَبُ بِنْتُ أبي سَلَمَةَ: أَنَّهَا دَخَلْتُ على أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبيِّ صلعم حِينَ تُوُفِّيَ أَبُوهَا أَبُو سُفْيَانَ ابنُ حَرْبٍ(1)، فَدَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ بِطِيبٍ فِيهِ صُفْرَةٌ خَلُوقٌ _أَوْ غَيْرُهُ_ فَدَهَنَتْ مِنْهُ جَارِيَةً، ثُمَّ مَسَّتْ بِعَارِضَيْهَا، ثُمَّ قَالَتْ: وَاللهِ مَا لي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، غَيْرَ إني سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: (لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ على مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثِ لَيَالٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا).
          قَالَتْ زَيْنَبُ: فَدَخَلْتُ على زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ حِينَ تُوُفِّيَ أَخُوهَا، فَدَعَتْ بِطِيبٍ فَمَسَّتْ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَتْ: أَمَا وَاللهِ مَا لي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، غَيْرَ إني سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم يَقُولُ على الْمِنْبَرِ: (لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ على مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثِ لَيَالٍ، إِلَّا على زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا). [خ¦5334] [خ¦5335] [خ¦5336] [خ¦5337]
          قَالَتْ زَيْنَبُ: وَسَمِعْتُ أُمَّ سَلَمَةَ تَقُولُ: (جَاءَتِ امْرَأَةٌ إلى رَسُولِ اللهِ صلعم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ ابْنَتِي تُوُفِّي عَنْهَا زَوْجُهَا، / وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا، أَفَتَكْحُلُهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: لا _مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا_ كُلَّ ذَلِكَ يَقُولُ: لَا، ثُمَّ قَالَ النَّبيُّ: إِنَّمَا هي أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ في الْجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ على رَأْسِ الْحَوْلِ).
          قَالَ حُمَيْدٌ: قُلْتُ لِزَيْنَبَ: وَمَا تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ على رَأْسِ الْحَوْلِ؟ فَقَالَتْ زَيْنَبُ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، دَخَلَتْ حِفْشًا، وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا، وَلَمْ تَمَسَّ طِيبًا حَتَّى تَمُرَّ بِهَا سَنَةٌ، ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ حِمَارٍ، أَوْ شَاةٍ، أَوْ طَائِرٍ فَتَفْتَضُّ بِهِ، فَقَلَّمَا تَفْتَضُّ بِشيء إِلَّا مَاتَ، ثُمَّ تَخْرُجُ، فَتُعْطَى بَعَرَةً، فَتَرْمِي بَهَا، ثُمَّ تُرَاجِعُ بَعْدُ مَا شَاءَتْ مِنْ طِيبٍ أَوْ غَيْرِهِ. سُئِلَ(2) مَالِكٌ: مَا تَفْتَضُّ؟ قَالَ: تَمْسَحُ بِهِ جِلْدَهَا.
          الإحداد: ترك المرأة الزينة كلَّها من اللباس والطيب والحلي(3) والكحل ما دامت في عدَّتها؛ لأنَّ الزينة داعيةٌ إلى الأزواج، فنهيت عن ذلك قطعًا للذرائع وحمايةً لحرمات الله ╡ أن تنتهك، يقال: امرأةٌ حادٌّ ومحِدٌّ.
          قال ابن المنذر: وحديث أمِّ حبيبة يدلُّ على معانٍ، فمنها(4): تحريم إحداد المسلمات على غير أزواجهنَّ فوق ثلاثٍ، وإباحة إحدادهنَّ عليهم ثلاثًا، ومنها أنَّ المأمور بالإحداد الزوجة المسلمة دون اليهوديَّة والنصرانيَّة، وإن كانت تحت مسلمٍ؛ لأنَّ قوله: (لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)، دليلٌ على أنَّ الذمِّيَّة لم تخاطب بذلك.
          ومنها الدلالة على أنَّ المخاطب بالإحداد من الزوجات من عدَّتهنُّ الشهور دون الحوامل منهنَّ.
          وفيه: دليلٌ على أنَّ المطلَّقة ثلاثًا لا إحداد عليها. قال ابن المنذر: هذا يدلُّ عليه ظاهر الحديث، وقد قاله بعض من لقيته من أهل العلم، فإن يكن في ذلك إجماعٌ فهو مسلَّمٌ له، وليس فيه إجماعٌ؛ لأنَّ الحسن البصريَّ كان لا يرى الإحداد.
          ومنها: وجوب الإحداد على جميع(5) الزوجات المسلمات، مدخولًا بهنَّ أو غير مدخولٍ بهنَّ؛ لدخولهنَّ في جملة من خوطب بالإحداد في عدَّة الوفاة إذا كانت العدَّة بالشهور، وتدخل فيما ذكرنا(6) الحرَّة تحت العبد، والأمة تحت الحرِّ والعبد والمكاتب والمدبر، وأمُّ الولد المزوَّجة يتوفَّى عنهنَّ أزواجهنَّ، والمطلَّقة يطلِّقها زوجها طلاقًا يملك رجعتها، ثمَّ يتوفَّى عنها قبل انقضاء عدَّتها، إذ أحكامها أحكام الأزواج إلى أن توفِّي عنها.
          وممَّن قال إنَّ على الأمة الإحداد(7) إذا توفِّي عنها زوجها: مالكٌ والثوريُّ والكوفيُّون والشافعيُّ وأبو ثورٍ، وحُكِي ذلك عن ربيعة؛ لأنَّها داخلةٌ في جملة الأزواج، وفي عموم الأخبار، ولا أحفظ في ذلك خلافًا إلَّا ما ذكر عن الحسن.
          وأجمعوا أنَّ أمَّ الولد لا إحداد عليها إذا توفِّي سيِّدها، والحجَّة في ذلك أنَّ الأحاديث إنَّما جاءت في الأزواج، وأمُّ الولد ليست بزوجةٍ، ذكر هذا كلَّه ابن المنذر.
          قال المؤلِّف: واختلف قول مالكٍ في الكتابيَّة هل يلزمها الإحداد على زوجها المسلم، فروى عنه أشهب أنَّه لا إحداد عليها، وهو قول ابن نافعٍ والكوفيِّين، وقد تقدَّم هذا القول يدلُّ عليه الحديث.
          قال الكوفيُّون: وكيف يكون عليها الإحداد مع ما فيها من الشرك، وما تترك من فرائض الله أعظم من ذلك.
          وروي أيضًا عن مالكٍ أنَّه قال: عليها الإحداد، وهو قول الليث والشافعيِّ وأبي ثورٍ، وحجَّة هذا القول أنَّ الإحداد من حقِّ(8) الزوج، وهو يحفظ النسب كالعدَّة، قالوا: وتدخل الكافرة في ذلك بالمعنى، كما دخل الكافر في أنَّه لا يجوز أن يُستام على سومه، وإنَّما في الحديث: ((لا يسم على سوم أخيه))، كما يقال: هذا طريق المسلمين، وقد يسلكه غيرهم(9)، وإن كان الخطاب يتوجَّه إلى المؤمنات، فإنَّ الذمِّيَّة دخلت في ذلك لحقِّ الزوجيَّة؛ لأنَّها في النفقة والسكنى والعدَّة كالمسلمة، فكذلك تكون في الإحداد.
          واختلفوا في الزوجة الصغيرة المتوفَّى(10) عنها زوجها، فقالت طائفةٌ: عليها من ذلك ما على البالغ منهنَّ، هذا قول مالكٍ والشافعيِّ وأحمد بن حنبلٍ وأبي عبيدٍ وأبي ثورٍ.
          وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا إحداد عليها؛ لقوله صلعم: (لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوقَ ثَلَاثٍ(11))، فعُلِم أنَّ ذلك لا يلزم إلَّا المكلَّفين البالغين.
          واحتجَّ أبو عبيدٍ للقول الأوَّل فقال: لمَّا كان نكاحها غير محرَّمٍ على كلِّ ناكحٍ كنكاح الكبيرة، وجب أن تكون في الإحداد كذلك، وكان يقول: إنَّما ذلك على من يتولَّاها من الأبوين وغيرهما. /
          قال المؤلِّف: ولمَّا أجمعوا أنَّ على الصغيرة عدَّة الوفاة، فكذلك الإحداد.
          واختلفوا في المطلَّقة ثلاثًا، فقالت طائفةٌ: عليها الإحداد كالمتوفَّى عنها زوجها سواءٌ، روي ذلك عن سعيد بن المسيِّب وسليمان بن يسارٍ وابن سيرين والحكم، وهو قول الكوفيِّين وأبي ثورٍ وأبي عبيدٍ.
          وقال الشافعيُّ وأحمد وإسحاق: الاحتياط أن تتَّقي المطلَّقة الزينة. قال الشافعيُّ: ولا يتبيَّن لي(12) أن أوجبه.
          واحتجَّ من أوجبه عليها لأنَّها في عدَّةٍ يحفظ بها النسب، كالمتوفَّى عنها زوجها.
          وقالت طائفةٌ: لا إحداد على مطلَّقة، ورخَّصوا لها في الزينة، روي هذا(13) عن عطاءٍ وربيعة، وهو قول مالكٍ والليث.
          وقال ابن المنذر: قول النبيِّ صلعم: (لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَ عَلَى مَيِّتٍ فَوقَ ثَلَاثٍ)، دليلٌ على أنَّ المطلَّقة ثلاثًا والمطلِّق حيٌّ لا إحداد عليها؛ لأنَّه صلعم أخبر أنَّ الإحداد إنَّما هو على نساء الموتى، مع أنَّ الأشياء على الإباحة حتَّى يدلَّ كتابٌ أو سنَّةٌ أو إجماعٌ على حظر شيءٍ فيمتنع منه.
          وفسَّر مالك الحفش: أنَّه البيت الرديء، وروى ابن وهبٍ عنه أنَّه البيت الصغير، وهو قول الخليل.
          وقال أبو عبيدٍ: الحفش: الدُّرج(14)، وجمعه: أحفاش، يشبه البيت الصغير. وقال الخطَّابي: سُمِّي حفشًا لضيقه وانضمامه، والتحفُّش: الانضمام والاجتماع.
          وقال مالكٌ: تفتضُّ به، تمسح جلدها كالنَّشرة.
          قال صاحب «العين»: الفضض: ماءٌ عذبٌ تصيبه ساعتئذٍ وتقول: افتضضته.
          وقال غيره: كانت المرأة في الجاهليَّة تفتضُّ بالدابَّة، ثمَّ تغتسل وتتنظَّف، ثمَّ ترمي ببعرةٍ من بعر الغنم، فترمي بها وراء ظهرها، ويكون ذلك إحلالًا لها، ومعنى رميها بالبعرة إعلامٌ لها أنَّ صبرها عامًا أهون عليها من رميها بالبعرة.


[1] قوله: ((ابن حرب)) ليس في (ص).
[2] في (ص): ((وسئل)).
[3] قوله: ((والحلي)) ليس في (ص).
[4] في (ص): ((فيها)).
[5] قوله: ((جميع)) ليس في (ص).
[6] في (ص): ((ذكرناه)).
[7] في (ص): ((إحداد)).
[8] في (ص): ((الإحداد لحق)).
[9] زاد في (ص): ((قالوا)).
[10] في (ص): ((يتوفى)).
[11] قوله: ((فوق ثلاث)) زيادة من (ص).
[12] قوله: ((لي)) ليس في (ص).
[13] في (ص): ((ذلك)).
[14] في (ص): ((الدوح)).