شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما يؤكل من لحوم الأضاحي وما يتزود منها

          ░16▒ بَابُ مَا يُؤْكَلُ مِنْ لحم الأضَاحِيِّ وَمَا يُتَزَوَّدُ مِنْهَا.
          فيه: جَابِرٌ (كُنَّا نَتَزَوَّدُ لُحُومَ الأضَاحِي على عَهْدِ النَّبيِّ صلعم إلى الْمَدِينَةِ). وَقَالَ غَيْرَ(1) مَرَّةٍ: لُحُومَ الْهَدْيِ. [خ¦5567]
          وفيه: أَبُو سَعِيدٍ، أَنَّهُ كَانَ غَائِبًا، فَقَدِمَ(2) فَقُدِّمَ إِلَيْهِ لَحْمٌ، قَالُوا(3): هَذَا مِنْ لَحْمِ ضَحَايَانَا، قَالَ(4): أَخِّرُوهُ لا أَذُوقُهُ، ثُمَّ قُمْتُ فَخَرَجْتُ حَتَّى أَجِيءَ أَبَا قَتَادَةَ _وَكَانَ أَخَاهُ لأمِّهِ_ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ حَدَثَ بَعْدَكَ أَمْرٌ. [خ¦5568]
          وفيه: سَلَمَةُ، قال: (قال النَّبيُّ صلعم(5): مَنْ ضَحَّى مِنْكُمْ فَلا يُصْبِحَنَّ بَعْدَ ثَالِثَةٍ وَفي(6) بَيْتِهِ مِنْهُ شَيْءٌ، فَلَمَّا كَانَ في الْعَام الْمُقْبِلِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، نَفْعَلُ كَمَا فَعَلْنَا عَامَ الْمَاضِي؟ قَالَ: كُلُوا وَأَطْعِمُوا وَادَّخِرُوا، فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَامَ كَانَ بِالنَّاسِ جَهْدٌ، فَأَرَدْتُ أَنْ تُعِينُوا فِيهَا). [خ¦5569]
          وفيه: عَائِشَةُ قَالَتِ: الضَّحِيَّةُ كُنَّا / نُمَلِّحُ مِنْهُ، فَنَقْدَمُ بِهِ إلى رسولِ اللهِ(7) صلعم بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ: (لا تَأْكُلُوا إِلَّا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) وَلَيْسَتْ بِعَزِيمَةٍ، وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ نُطْعِمَ مِنْهُ، وَاللهُ أَعْلَمُ. [خ¦5570]
          وفيه: أَبُو عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ، أَنَّهُ شَهِدَ الْعِيدَ يَوْمَ الأضْحَى مَعَ عَلِيِّ بْنِ أبي طَالِبٍ ☺، فَصَلَّى قَبْلَ الْخُطْبَةِ، ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ: (إِنَّ النَّبيَّ صلعم نَهَاكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا لَحْمَ نُسُكِكُمْ فَوْقَ ثَلاثٍ). [خ¦5571] [خ¦5572] [خ¦5573]
          وفيه: ابْنُ عُمَرَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (كُلُوا مِنَ الأضَاحِي ثَلاثًا). وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَأْكُلُ بِالزَّيْتِ حِينَ يَنْفِرُ مِنْ مِنًى مِنْ أَجْلِ لُحُومِ الْهَدْي. [خ¦5574]
          اختلف(8) العلماء في هذا الباب، فذهب قوم إلى أن يحرِّموا لحوم الأضاحي بعد ثلاث، واحتجُّوا بحديث أبي عبيد عن عليِّ بن أبي طالب ☺: (أنَّ النَبيَّ صلعم نهى عن(9) أنْ يؤكلَ مِنْ لحمِ الأضاحي بعدَ ثلاثٍ) وبحديث ابن عمر: (أنَّهُ ◙ أباحَ لهُمُ الأكلَ منها ثلاثًا) وإليه ذهب ابن عمر.
          وخالفهم في ذلك آخرون ولم يروا بأكلها وادِّخارها بأسًا، وعليه الجمهور، واحتجَّوا بحديث جابر وحديث أبي سعيد الخدريِّ وحديث سلمة(10) وقالوا: أحاديث الإباحة ناسخة للنَّهي في ذلك(11)، هذا قول الطَّحاويِّ.
          وقال المُهَلَّب: والذي يصحُّ عندي أنَّه ليس ناسخ ولا منسوخ، وقد فسِّر ذلك في الحديث بقوله: إنَّما كانَ ذلك من أجلِ الجهدِ، ومن أجلِ الدَّافةِ، فكان نظرًا منه ◙ لمعنى، فإذا زال المعنى سقط الحكم، وإذا ثبت المعنى ورأى ذلك الإمام عهد بمثل ما عهد به ◙ توسعةً على المحتاجين.
          وقول عائشة: (وَلَيْسَتْ بِعَزِيمَةٍ ولكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ تُتْطْعِمَ(12) مِنْهُ) يبيِّن أنَّه ليس بمنسوخ، ولا النَّهي عن ذلك بمعنى التَّحريم، وأنَّ للإمام والعالم أن يأمر بمثل هذا، ويحضَّ عليه إذا نزل بالنَّاس حاجة.
          وروى إسرائيل عن أبي إسحاق عن عابس(13) بن ربيعة قال: أتيت عائشة فقلت: يا أمَّ المؤمنين، أكان رسول الله صلعم حرَّم(14) لحوم الأضاحي فوق ثلاث؟ فقالت(15): لا، ولكن(16) لم يكن ضحَّى منهم إلَّا قليل، ففعل ذلك ليطعِم(17) من ضحَّى منهم من لم يضحِّ، ولقد رأيتنا نخبِّئ الكراع ثمَّ نأكلها بعد ثلاث))، رواه الطَّحاويُّ: عن فهد عن أبي غسَّان عن إسرائيل.
          قال الطَّحاويُّ: فإن قيل: قد روى عبد الوارث عن عليِّ بن زيد قال: حدَّثني النَّابغة بن مخارق بن سُلَيم عن أبيه عن عليٍّ عن النَّبيِّ صلعم أنَّه قال: ((إنِّي قدْ كنتُ(18) نهيتُكُم عَنْ لُحومِ الأَضَاحِي أنْ تدَّخِرُوها فوقَ ثَلاثٍ، فادَّخِروها مَا بَدَا لَكُم)) وهذا يعارض ما روي عن عليٍّ أنَّه خطب به النَّاس وعثمان محصور في الدَّار، فقال: ((لَا تَأكُلوا مِنْ لُحومِ أَضاَحِيكُم بعدَ ثلاثَةِ أيَّامٍ، فإنَّ رسولَ الله صلعم كانَ يأمرُنا بذلِكَ)).
          فدلَّ هذا على أنَّ النَّبيَّ صلعم كان قد(19) نهى عن ذلك بعد ما قد(20) أباحه حتَّى تتفِّق معاني ما روي عن عليٍّ في ذلك ولا تتضادَّ.
          قيل: قد جاء في الحديث بيان هذا، وذلك أنَّ ◙ كان(21) نهى عنها لشدَّة كان النَّاس فيها، ثمَّ ارتفعت تلك الشِّدَّة فأباح لهم ذلك، ثمَّ عاد(22) مثل ذلك في وقت ما خطب عليٌّ بالنَّاس، فأمرهم بما كان رسول الله صلعم يأمرهم(23) به في مثل ذلك.
          والدَّليل على ذلك حديث سلمة بن الأكوع أنَّه ◙ قال: ((كلُوا وادَّخِرُوا فإنَّ ذلك العَامَ كانَ بالنَّاسِ جُهدٌ، فأردْتُ أنْ تُعِينُوا فِيها))، وقال: ((إنَّما كنتُ نهيتُكُم مِنْ أجلِ الدَّافَّةِ التي دفَّتْ)) فدلَّ هذا القول أنَّ النَّهي من رسول الله صلعم للعارض المذكور، فلمَّا ارتفع ذلك العارض أباح لهم رسول الله صلعم ما كان حظره(24) عليهم، فكذلك ما فعل عليٌّ ☺ في زمن عثمان ☺، وأمر به النَّاس بعد علمه بإباحة رسول الله صلعم(25) في الوقت الذي نهاهم عن لحوم الأضاحي.
          وبإباحة أكل لحوم الأضاحي وتزوُّدها قال مالك والكوفيُّون والشَّافعيُّ وجمهور الأئمَّة.
          فإن / قال قائل: فقوله ◙: (كلوا وأطعموا) هل فيه دليل على وجوب الأكل من الضَّحيَّة؟ وهل هو كقوله ╡: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ على مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا}[الحج:28].
          قال الطَّبريُّ: معناهما واحد، وهو أمر بمعنى الإطلاق والإذن للأكل، لا بمعنى الإيجاب، وذلك أنَّه لا خلاف بين سلف الأمَّة وخلفها أنَّ المضحِّي غير حرج بتركه الأكل من أضحيته ولا آثم، فدلَّ إجماعهم على ذلك أنَّ الأمر بالأكل منها(26) بمعنى الإذن والإطلاق.
          فإن قيل: اذكر(27) لنا بعض من قال ذلك. قيل: سئل مجاهد وعطاء عن الذي لا يأكل من أضحيته، قالا: إن شاء لم يأكل منها، قال الله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ}[المائدة:2]أرأيت إن لم يصطد؟.
          وقال إبراهيم: كان المشركون لا يأكلون من ذبائحهم، فرخِّص للمسلمين، فمن شاء أكل ومن شاء لم يأكل. وقال سفيان: لا بأس ألَّا يأكل منها ويطْعِمَهَا(28) كلَّها. قال الطَّبريُّ: وهو قول جميع أئمَّة الأمصار. فإن قيل: فهل روي عن أحد من السَّلف أنَّه كان يُطعِمُ منها غنيًّا أو من ليس بمسلم؟ قيل: نعم،(29) روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كان عمر يبعث إلينا من فضول الأضاحي بالرُّؤوس والأكارع.
          وقال الحسن: لا بأس أن تطعم من أضحيتك جارك اليهوديَّ والنصرانيَّ والمجوسيَّ.
          فإن قيل: فكم مقدار ما يستحبُّ له أن يأكل منها، ومقدار ما يتصدَّق به؟ قيل(30): يستحبُّ له أن يتصدَّق بثلثها ويأكل ثلثها ويُطعم الجيران ثلثها؛ لأنَّ ذلك كان يفعله بعض السَّلف، وأمَّا قدر(31) ما ينبغي له أن لا يقصِّر في أكله منها فبضعة؛ لأنَّ النَّبيَّ صلعم روي(32) عنه ((أنَّهُ أمرَ أنْ يطبخَ(33) مِنْ كلِّ بدَنِةٍ مِنْ بُدْنِهِ التي نحرَها بُضْعةً، فأكلَ منها وتحسَّى مِنْ مرَقِها)). وروي(34) عن عليٍّ أنه ذبح أضحيته، فشوى كبدها وتصدَّق بسائرها، ثمَّ أخذ رغيفًا وكبدًا بيده الأخرى فأكل.
          وقال سفيان الثَّوريُّ: إن أراد أن لا يتصدَّق من أضحيته بشيء، قال: لا ينبغي له، ولكن إنْ تصدَّق بلقمة أجزأه(35).


[1] في (ص): ((غيره)).
[2] قوله: ((فقدِم)) زيادة من (ص).
[3] في (ص): ((فقالوا)).
[4] في (ص): ((وقال)).
[5] في (ص): ((قال الرسول)).
[6] في (ص): ((في)).
[7] في (ص): ((إلى النبي)).
[8] في (ص): ((واختلف)).
[9] قوله: ((عن)) ليس في (ص).
[10] في (ص): ((وحديث أم سلمة)).
[11] قوله: ((في ذلك)) ليس في (ص).
[12] في (ص): ((يطعم)).
[13] في (ص): ((عباس)).
[14] في (ص): ((يحرم)).
[15] في (ص): ((قالت)).
[16] في (ص): ((ولكنه)).
[17] في (ص): ((ليكفي)).
[18] في (ص): ((كنت قد)).
[19] قوله: ((قد)) ليس في (ص).
[20] قوله: ((قد)) ليس في (ص).
[21] في (ص): ((أنه قد كان ◙ كان)).
[22] قوله: ((عاد)) ليس في (ص).
[23] في (ص): ((أمرهم)).
[24] في (ص): ((حظر)).
[25] زاد في (ص): ((ما قد نهاهم عنه إنما كان لضيق بدا فيه مثل ما كان في زمن رسول الله)).
[26] قوله: ((منها)) ليس في (ص).
[27] في (ص): ((ذكر)).
[28] في (ز): ((يطعمها)) والمثبت من (ص).
[29] زاد في (ص): ((قد)).
[30] زاد في (ص): ((له)).
[31] قوله: ((قدر)) ليس في (ص).
[32] في (ص): ((قد ورد)).
[33] في (ز): ((يصلح)) والمثبت من (ص).
[34] في (ز): ((وروى أبو الحبوب)) والمثبت من (ص).
[35] زاد في (ص): ((تم الجزء الثامن والحمد لله وحده)).