شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: إذا بعث بهديه ليذبح لم يحرم عليه شيء

          ░15▒ بَابُ إِذَا بَعَثَ بِهَدْيِهِ لِيُذْبَحَ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ شَيْءٌ.
          فيه: مَسْرُوقٌ أَنَّهُ أَتَى عَائِشَةَ، فَقَالَ لَهَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ رَجُلًا يَبْعَثُ بِالْهَدْي إلى الْكَعْبَةِ، وَيَجْلِسُ في الْمِصْرِ، فَيُوصِي أَنْ تُقَلَّدَ بَدَنَتُهُ(1)، فَلا يَزَالُ مِنْ ذَلِكِ الْيَوْمِ مُحْرِمًا حَتَّى يَحِلَّ النَّاسُ، قَالَ: فَسَمِعْتُ تَصْفِيقَهَا مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ، فَقَالَتْ: لَقَدْ كُنْتُ أَفْتِلُ قَلائِدَ هَدْي رَسُولِ اللهِ صلعم، فَيَبْعَثُ هَدْيَهُ إلى الْكَعْبَةِ، فَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مِمَّا(2) حَلَّ لِلرَّجُلِ(3) مِن امْرَأَتِهِ حَتَّى يَرْجِعَ النَّاسُ. [خ¦5566]
          هذا الباب فيه ردٌّ على من قال: إنَّ من بعث بهديه إلى الكعبة لزمه إذا قلَّده الإحرام، ويجتنب كلَّ ما يجتنبه الحاجُّ حتَّى ينحر هديه، روي(4) هذا عن ابن عبَّاس وابن عمر، وهو قول عطاء بن أبي رَبَاح.
          وأئمَّة الفتوى على خلاف هذا القول، وقد تقدَّم بيان الحجَّة لهم في ذلك في كتاب الحجِّ، [خ¦1696] وهذا الحديث يردُّ ما روي عن أمِّ سلمة عن النَّبيِّ صلعم أنَّه قال: ((مَنْ رأى منكُم هلالَ ذي الحِجَّةِ وأرادَ أنْ يضحِّيَ فلا يأخُذْ مِنْ شعرِهِ أو أظفارِهِ حتَّى يضحِّيَ)). وقال(5) بظاهر حديث أمِّ سلمة سعيدُ بنُ المسيِّب وأحمدُ وإسحاقُ. وقال اللَّيث: قد جاء هذا الحديث، وأكثر النَّاس على خلافه.
          قال الطَّحاويُّ: حديث عائشة أحسن مجيئًا من حديث أمِّ سلمة، لأنَّه جاء مجيئًا متواترًا، وحديث أمِّ سلمة قد طُعن في إسناده، وقيل: إنَّه موقوف على أمِّ سلمة، رواه ابن وهب وعثمان بن عُمَر عن مالك عن عُمَر بن مسلم عن سعيد بن المسيِّ، عن أمِّ سلمة، ولم يرفعه.
          وأمَّا من طريق النَّظر فرأينا الإحرام يحظر أشياء ممَّا كانت حلالًا قبله، منها الجماع والقبلة وقصُّ الأظفار وحلق الشَّعر والصَّيد. فكلُّ هذه الأشياء تحرم بالإحرام وأحكامها مختلفة، وذلك أنَّ الجماع يفسد الإحرام، ولا يفسده ما سوى ذلك، ثمَّ رأينا من دخلت عليه أيَّام العشر لا يحرم عليه الجماع، وهو أغلظ ما يحرم به الإحرام، فكان أحرى أن لا يمنع ما دون ذلك.


[1] في (ص): ((أو يقلد بدنه)).
[2] في (ص): ((شيء)).
[3] في المكف: ((للرجال)). في المطبوع: ((للرجل)).
[4] في (ص): ((وروي)).
[5] في (ص): ((وأخذ)).