شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من قال الأضحى يوم النحر

          ░5▒ بَابُ مَنْ قَالَ الأضْحَى يَوْمُ النَّحْرِ.
          فيه: أَبُو بَكْرَةَ، عَنِ النَّبيِّ صلعم قَالَ: (الزَّمَانُ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الذي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ، أيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: أَلَيْسَ ذَا الْحِجَّةِ؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: أيُّ بَلَدٍ هَذَا)؟ قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: (أَلَيْسَ الْبَلْدَةَ؟) قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: (فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟) قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: (أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟) قُلْنَا: بَلَى.(1) الحديث. [خ¦5550]
          اختلف العلماء في أيَّام الأضحى، فقال مالك وأبو حنيفة وأصحابه والثَّوريُّ وأحمد بن حنبل: الأضحى يوم النَّحر، ويومان بعده. روي ذلك عن عمر وعليٍّ وابن عمر وابن عبَّاس وأبي هريرة وأنس، ذكره ابن القصَّار، وذكره ابن وهب عن ابن مسعود.
          وقال عطاء والحسن البصريُّ / والأوزاعيُّ والشَّافعيُّ وأبو ثور(2): الأضحى يوم النَّحر، وثلاثة أيَّام بعده. روي(3) ذلك عن عليٍّ وابن عبَّاس قالا: أيَّام النَّحر الأيَّام المعلومات. وهو اختلاف من قولهما، وليس عن الصَّحابة غير هذين القولين، و بهما قال أئمَّة الفتوى، وللتَّابعين(4) فيها شذوذ، قال ابن سيرين: الأضحى يوم واحد. يعني يوم النَّحر، وبذلك ترجم البخاريُّ. وقال سعيد بن جبير وجابر بن زيد: النَّحر في الأمصار يوم واحد، وفي منى ثلاثة أيَّام. وروي عن الحسن البصري: النَّحر إلى آخر يوم من ذي الحجَّة. وقال قَتادة: يوم النَّحر وستَّة أيَّام بعده.
          وهذه الأقوال لا أصل لها في السُّنَّة، ولا في أقوال الصَّحابة، وليس استدلال من استدلَّ من قوله ◙: (أَلَيسَ يَومَ النَّحْرِ) أنَّه لا يكون نحر ولا ذبح في غيره بشيء؛ لأنَّ النَّحر في أيَّام منى قد نقله الخلف عن السَّلف، وجرى عليه العمل في جميع الأمصار، فلا حجَّة مع من خالفه، وكان مالك لا يرى(5) أن يضحي بليل واحتجَّ بقوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ(6) على مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}[الحج:28]قال فذكر الأيَّام دون اللَّيالي.
          وقال أبو حنيفة والشَّافعيُّ: لا بأس بالذَّبح ليلًا في أيَّام النَّحر؛ لأنَّ الله تعالى إذا ذكر الأيَّام فاللَّيالي تبع لها، وإذا ذكر اللَّيالي فالأيَّام تبع لها، وبه قال أشهب وإسحاق وأبو ثور.
          وأجمعوا أنَّه لا يجوز أن يضحِّي قبل طلوع الفجر(7) من يوم النَّحر، وقد تقدَّم في كتاب صلاة العيدين [خ¦969] اختلاف العلماء في الأيَّام المعلومات والمعدودات، والحمد لله.
          وقال أبو عبيد: قوله ◙: (إنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَومَ خَلَقَ اللهُ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ) يقال: إنَّ بدء ذلك كان _والله أعلم_ أنَّ العرب كانت تحرِّم الشُّهور الأربعة، وكان هذا ممَّا تمسَّكت به من ملَّة إبراهيم ◙، فربَّما احتاجوا إلى تحليل المحرَّم للحرب تكون بينهم فيكرهون أنْ يستحلِّوه و يكرهون تأخير حربهم، فيؤخِّرون تحريم المحرَّم إلى صفر، فيحرِّمونه ويستحلُّون المحرَّم، وهذا هو النَّسِيءُ الذي قال الله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا(8)}الآية[التوبة:37]، وكان ذلك في كتابه.
          والنَّسيءُ هو التَّأخير، ومنه قيل: بعتُ الشَّيءَ بنسيئة. فكانوا يحرِّمون صفر يريدون به المحرَّم، ويقولون: هو أحد الصَّفرين. قال أبو عبيد: وقد تأوَّل بعض النَّاس في قوله ◙: ((ولَا صَفَرَ)) على هذا، ثمَّ يحتاجون أيضًا إلى تأخير صفر إلى الشَّهر الذي بعده كحاجتهم إلى تأخير المحرَّم، فيؤخِّرون تحريمه إلى ربيع، ثمَّ يمكثون بذلك ما شاء الله، ثمَّ يحتاجون إلى مثله، ثمَّ كذلك، فكذلك يتدافع شهرًا بعد شهر حتَّى استدار التَّحريم على السَّنة كلِّها، فقام الإسلام وقد رجع المحرَّم إلى موضعه الذي وصفه الله به، وذلك بعد دهر طويل.
          وزعم بعض النَّاس أنَّهم كانوا يستحلُّون المحرَّم(9) عامًا، فإذا كان قابِلُ ردُّوه إلى تحريمه، والتَّفسير الأوَّل أحبُّ إليَّ لقوله ◙: (إنَّ الزَّمانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَومَ خَلَقَ اللهُ السَّمَواتِ والأَرْضَ) وليس في التَّفسير الأخير استدارة، و على هذا الذي فسَّرناه يكون قوله تعالى: {يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا}[التوبة:37]مصدقًا له لأنَّهم إذا حرَّموا في العام المحرَّم وفي قابل صفر، ثمَّ احتاجوا بعد ذلك إلى تحليل صفر أيضا أحلُّوه، وحرَّموا الذي بعده، فهذا تأويل قوله تعالى: {يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا}[التوبة:37].
          قال أبو عبيد: وفي هذا تفسير آخر، يقال: إنَّه في الحجِّ، حدَّثنا(10) سفيان بن عيينة عن ابن أبي نَجِيْح عن مجاهد في قوله تعالى: {وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ}[البقرة:197]قال: قد استقرَّ الحجُّ في ذي الحِجَّة لا جدال فيه. وفي غير حديث سفيان يروى عن معمر عن ابن أبي نَجِيْح عن مجاهد قال: كانت العرب في الجاهليَّة يحجُّون عامين في ذي القعدة، وعامين في ذي الحجَّة، فلمَّا كانت السَّنة / التي حجَّ فيها أبو بكر قبل حجَّة النَّبيِّ صلعم كان الحجُّ في السَّنة الثَّانية من ذي القعدة، فلمَّا كانت السَّنة التي حجَّ فيها النَّبيُّ صلعم في العام المقبل عاد الحجُّ إلى ذي الحجَّة. وقال ثابت بن حزم: روى سفيان بن حسين قال: حدَّثني أبو بشر عن مجاهد قال: حجَّ أبو بكر في ذي الحجَّة.
          وذكر ثابت في «غريب الحديث» حديث أبي بكرة وقال فيه: ((أَلَيْسَ الْبَلَدَةَ؟)) بفتح اللَّام، قال: ومنى أيضًا يسمُّونها البلدة، وقد ذكر الله مكَّة في كتابه فقال: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ}[النمل:91]بإسكان اللَّام، فلا أعرف ما قال ثابت إلَّا أن تكون لغة للعرب أيضا بفتح اللَّام.


[1] زاد في (ص): ((قَالَ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ »)).
[2] قوله: ((وأبو ثور)) ليس في (ص).
[3] في (ص): ((وروي)).
[4] في (ز): ((والتابعين)) والمثبت من (ص).
[5] زاد في (ص): ((لأحد)).
[6] قوله: ((معلومات)) ليس في (ص).
[7] قوله: ((الفجر)) ليس في (ص).
[8] قوله: ((يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا)) ليس في (ص).
[9] في (ص): ((بالمحرم)).
[10] في (ص): ((حدثناه)).