شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين

          ░15▒ باب [الْخُمُسُ لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ]وَمِنَ الدَّلِيلِ أَنَّ الْخُمُسَ لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ.
          مَا سَأَلَ هَوَازِنُ النَّبيَّ صلعم بِرَضَاعِهِ فِيهِمْ، فَتَحَلَّلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا كَانَ الرَّسُولُ صلعم يَعِدُ النَّاسَ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنَ الْفَيْءِ وَالأنْفَالِ مِنَ الْخُمُسِ، وَمَا أَعْطَى الأنْصَارَ وَمَا أَعْطَى جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ مِنْ تَمْرِ خَيْبَرَ.
          وفيه: مَرْوَانُ، وَالْمِسْوَرُ: قَالَ صلعم حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ، فَقَالَ لَهُم النَّبيُّ صلعم: اخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، إِمَّا السَّبْيَ وَإِمَّا الْمَالَ، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِهِمْ، وَقَدْ كَانَ انْتَظَرَهُم بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنَ الطَّائِفِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ النَّبيَّ صلعم غَيْرُ رَادٍّ لَهُمْ إِلَّا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، /
          قَالُوا: نَخْتَارُ سَبْيَنَا، فَقَامَ صلعم فَقَالَ: (إِنَّ إِخْوَانَكُمْ هَؤُلاءِ جَاؤُونَا تَائِبِينَ، وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُطَيِّبَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ على حَظِّهِ حَتَّى أُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِيءُ اللهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ، فَقَالَ النَّاسُ: قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ، يَا رَسُولَ اللهِ..) الحديث. [خ¦3131] [خ¦3132]
          وفيه: أَبُو مُوسَى: (أَتَيْتُ النَّبيَّ صلعم في نَفَرٍ مِنَ الأشْعَرِيِّينَ نَسْتَحْمِلُهُ، فَقَالَ: وَاللهِ لا أَحْمِلُكُمْ، وَمَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ وَأُتِيَ النَّبيُّ صلعم بِنَهْبِ إِبِلٍ، فَسَأَلَ عَنَّا، فَأَمَرَ لَنَا بِخَمْسِ ذَوْدٍ غُرِّ الذُّرَى). [خ¦3133]
          فيه: ابْنُ عُمَرَ: (بَعَثَ النَّبيُّ صلعم سَرِيَّةً قِبَلَ نَجْدٍ، فَغَنِمُوا إِبِلًا كَثِيرَةً، فَكَانَتْ سِهَامُهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا). [خ¦3134]
          فيه: ابْنُ عُمَرَ: (كَانَ النَّبيُّ صلعم يُنَفِّلُ بَعْضَ مَنْ يَبْعَثُ مِنَ السَّرَايَا لأنْفُسِهِمْ خَاصَّةً، سِوَى قِسْمِ الْجَيْشِ). [خ¦3135]
          وفيه: أَبُو مُوسَى: (بَلَغَنَا مَخْرَجُ الرَّسُولِ صلعم وَنَحْنُ بِالْيَمَنِ، فَخَرَجْنَا مُهَاجِرِينَ أَنَا وَأَخَوَانِ لي، أَنَا أَصْغَرُهُمْ، أَحَدُهُمَا أَبُو بُرْدَةَ، وَالآخَرُ أَبُو رُهْمٍ، إِمَّا في بِضْعٍ، أو ثَلاثَةٍ وَخَمْسِينَ، أَوِ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِي، فَرَكِبْنَا سَفِينَةً، فَأَلْقَتْنَا سَفِينَتُنَا إلى النَّجَاشِيِّ بِالْحَبَشَةِ، وَوَافَقْنَا جَعْفَرَ بْنَ أبي طَالِبٍ وَأَصْحَابَهُ عِنْدَهُ، فَقَالَ جَعْفَرٌ: إِنَّ النَّبيَّ صلعم بَعَثَنَا هَاهُنَا، وَأَمَرَنَا بِالإقَامَةِ، فَأَقِيمُوا مَعَنَا، فَأَقَمْنَا مَعَهُ حَتَّى قَدِمْنَا جَمِيعًا، فَوَافَقْنَا النَّبيَّ صلعم حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ، فَأَسْهَمَ لَنَا، أَوْ قَالَ: فَأَعْطَانَا مِنْهَا، وَمَا قَسَمَ لأحَدٍ غَابَ عَنْ فَتْحِ خَيْبَرَ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا أَصْحَابَ سَفِينَتِنَا مَعَ(1) جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ قَسَمَ لَهُمْ مَعَهُمْ). [خ¦3136]
          وفيه: جَابِرٌ، قَالَ صلعم: (لَوْ قَدْ جَاءَنِي مَالُ الْبَحْرَيْنِ، أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، فَلَمْ يَجِئْ حَتَّى قُبِضَ النَّبيُّ صلعم فَلَمَّا جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ مُنَادِيًا فَنَادَى: مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ الرَّسُولِ صلعم عِدَةٌ أَوْ دَيْنٌ، فَلْيَأْتِنَا) الحديث. [خ¦3137]
          وفيه: جَابِرٌ: (بَيْنَمَا الرَّسُولُ صلعم يَقْسِمُ غَنِيمَةً بِالْجِعْرَانَةِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: اعْدِلْ، فَقَالَ: لَقَدْ شَقِيتُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ). [خ¦3138]
          قال المؤلِّف: غرض البخاريِّ في هذا الباب أن يبيِّن أنَّ إعطاء النَّبيِّ صلعم في نوائب المسلمين إنَّما هو من الفيء والخمس الذين أمرهما مردودٌ إليه، يقسم ذلك بحسب ما يؤدِّي إليه اجتهاده.
          ويردُّ على الشَّافعيِّ في قوله: إنَّ الخمس مقسومٌ على خمسة أسهمٍ، وهم الذين سمَّى الله الخمس لهم إلَّا سهم النَّبيِّ صلعم فإنَّه مردودٌ على الأربعة الأسهم الباقية.
          وبيان الحجَّة عليه أنَّ النَّبيَّ صلعم حين تحلَّل المسلمين من سبي هوازن، واستطابهم، ووعدهم أن يعوِّضهم من أوَّل ما يفيء الله عليه إنَّما أشار إلى الخمس، إذ معلومٌ أنَّ أربعة أخماس الغنيمة للغانمين، فبان أنَّ الخمس لو كان مقسومًا على خمسة أسهمٍ لم يف خمس الخمس بما وعد المسلمين أن يعوِّضهم من سبي هوازن.
          ذكر أهل السِّير أنَّ هوازن لمَّا أبت القتال للنَّبيِّ صلعم أتوا بالإبل والنِّساء والشَّاء والذُّرِّيَّة وجميع أموالهم أفترى خمس الخمس يفي بما وعدهم من العوض من ذلك.
          وذهب البخاريُّ إلى أنَّه إنَّما تحلَّل النَّبيُّ صلعم المسلمين من سباياهم بعد ما كانوا فيئًا، فأطلقهم لما كان نساء بني سعدٍ وَلُوا من رضاعه، فراعى في قبيلهم كلِّه حرمة ذلك، كما روعي في المرأة صاحبة المزادتين أنَّه لم يضرب على الحيِّ الذي كانت منه لذمامها في أخذ الماء منها حتَّى أسلم جميعهم.
          قال المُهَلَّب: وقد احتجَّ بعض أصحاب مالكٍ بقضيَّة هوازن في أنَّه يجوز قرض الجواري إذا ردَّ غيرها، ومنع من ذلك مالكٌ؛ لأنَّه عنده من باب عارية الفروج، وذلك حرامٌ. وكذلك الإبل التي حمل عليها النَّبيُّ صلعم الأشعريِّين هي أيضًا من الخمس؛ إذ أربعة أخماس الغنيمة للغانمين. وحديث ابن عمر فيه أيضًا حجَّةٌ واضحةٌ أنَّ النَّفل من الخمس كما قال مالكٌ؛ لأنَّه إنَّما نفَّلهم بعيرًا بعيرًا بعد قسمة السِّهمان بينهم من غير ما وجبت فيه سهمانهم، وهو الخمس.
          وقال الطَّحاويُّ: وذهب قومٌ إلى أنَّه ليس للإمام أن ينفِّل بعد إحراز الغنيمة إلَّا من الخمس، فأمَّا من غير الخمس فلا؛ لأنَّه قد ملكته المقاتلة، فلا سبيل للإمام عليه.
          وقال ابن المنذر: روي هذا القول عن أنس / بن مالكٍ وسعيد بن المسيِّب، وهو قول مالكٍ والكوفيِّين والشَّافعيِّ ذكره أبو عبيدٍ عن مكحولٍ، وعمر بن عبد العزيز، وقال أبو عبيدٍ: النَّاس اليوم على هذا، لا نفل من جملة الغنيمة حتَّى يخمَّس.
          قال الطَّحاويُّ: وخالفهم آخرون فقالوا: للإمام أن ينفِّل من الغنيمة ما أحبَّ بعد إحرازه إيَّاها قبل أن يقسمها، كما كان له قبل ذلك. وذكر ابن المنذر أنَّ هذا قول القاسم بن عبد الرَّحمن وفقهاء أهل الشَّام قالوا: الخمس من جملة الغنيمة، والنَّفل من بعده، ثمَّ الغنيمة بعد ذلك بين أهل العسكر. وهو قول الأوزاعيِّ وأحمد وإسحاق.
          وحجَّة هذا المقالة: حديث سليمان بن موسى، عن زياد بن جارية، عن حبيب بن مسلمة ((أنَّ رسول الله صلعم نفَّل في بدأته الرُّبع قبل الخمس)) فكذلك الثُّلث الذي ينفِّله في الرَّجعة هو الثُّلث أيضًا قبل الخمس، وإلَّا لم يكن لذكر الثُّلث معنى.
          قال الطَّحاويُّ: فيقال لهم: بل له معنى صحيحٌ، وذلك أنَّ المذكور من نفَّله في البدأة الرُّبع، هو ممَّا يجوز له النَّفل منه، وكذلك نفَّله في الرَّجعة الثُّلث ممَّا يجوز له النَّفل منه وهو الخمس. وروي حديث حبيبٍ بلفظ يدلُّ على هذا المعنى.
          روى مكحولٌ عن زياد بن جارية، عن حبيب بن مسلمة ((أنَّ رسول الله صلعم كان ينفِّل الثُّلث بعد الخمس)).
          قال الطَّحاويُّ: واحتجُّوا أيضًا بما رواه سليمان بن موسى، عن مكحولٍ، عن أبي سلامٍ، عن أبي أمامة الباهليِّ، عن عُبَاْدَة بن الصَامت قال: ((كان رسول الله صلعم ينفِّلهم إذا خرجوا بادئين الرُّبع، وينفِّلهم إذا قفلوا الثُّلث)).
          قيل لهم: وهذا لا حجَّة فيه؛ لأنَّه محتملٌ أن يكون معناه: ينفِّلهم إذا قفلوا الثُّلث، فيكون ذلك على قفولٍ من قتالٍ إلى قتالٍ، فيكون الثُّلث المنفَّل هو الثُّلث قبل الخمس، وذلك جائزٌ عندنا؛ لأنَّه يُرجى بذلك صلاح القوم وتحريضهم على قتال عدوِّهم. فأمَّا إذا كان القتال قد ارتفع فلا يجوز النَّفل؛ لأنَّه لا منفعة للمسلمين في ذلك.
          وقال أبو عبيدٍ: النَّفل في قوله الذي ذكره ابن عمر (وَنُفِّلُوا بَعِيرًا بَعِيرًا) بعد ذكر السِّهام، ولا وجه له إلَّا أن يكون من الخمس، وقد جاء مبيَّنًا في حديث مكحولٍ: ((أنَّ النَّبيَ صلعم نفَّل يوم حنينٍ من الخمس)).
          وروى ابن وهبٍ عن يونس عن ابن شهابٍ قال: بلغني عن عبد الله بن عُمَر أنَّه قال: ((نفَّل رسول الله صلعم سريَّة بعثها قِبَل نجدٍ من إبلٍ جاؤوا بها نفلًا سوى نصيبهم من المغنم)).
          قال الطَّحاويُّ: وقوله صلعم يوم حنينٍ حين أخذ وَبرةً من جنب بعيره ثمَّ قال: ((أيُّها النَّاس، إنَه لا يحلُّ لي ممَّا أفاء الله عليكم إلَّا الخمس، وهو مردودٌ فيكم)). يدلُّ أنَّ ما سوى الخمس من المغنم للمقاتلة. ويدلُّ على صحَّة ما قلنا ما رواه أبو عوانة، عن عاصم بن كليبٍ، عن أبي الجويرية، عن معن بن يزيد السُّلَميِّ قال: سمعت رسول الله صلعم يقول: ((لا نفل إلَّا بعد الخمس)) أي: حتَّى يقسم(2) الخمس. وإذا قسم الخمس انفرد حقُّ المقاتلة وهو أربعة أخماس، فكان ذلك النَّفل الذي ينفِّله الإمام من بعد أن آثر به(3) هو من الخمس لا من الأربعة الأخماس التي هي حقُّ المقاتلة، ولو أخذنا النَّفل قبل ذلك لكان حقُّهم قد بطل بعد وجوبه، وإنَّما يجوز النَّفل ممَّا يدخل في ملك المنفِّل من ذلك العدوِّ. فأمَّا ما قد زال عن ملك العدوِّ قبل ذلك وصار في ملك المسلمين فلا نفل فيه؛ لأنَّه من مال المسلمين، فثبت بذلك ألَّا نفل بعد إحراز الغنيمة.
          وممَّا احتجَّ به أصحاب مالكٍ قالوا: إنَّما لم يجعل مالكٌ النَّفل من رأس الغنيمة؛ لأنَّ أهلها معيَّنون، وهم الموجفون، وجعله من الخمس؛ لأنَّ قسمته مردودةٌ إلى اجتهاد الإمام وأهله غير معيَّنين.
          وفي حديث ابن عمر ردٌّ لقول من قال: إنَّ النَّفل من خمس الخمس، وإنَّما في الحديث أنَّه نفَّل نصف السُّدس؛ لأنَّه بلغت سهمانهم اثنا عشر بعيرًا ونُفِّلوا بعيرًا بعيرًا.
          وأمَّا حديث أبي موسى وأهل السَّفينة فإنَّ للعلماء في معناه / تأويلاتٍ: أحدها ما ذكر موسى بن عقبة، قال إنِّ النَّبي صلعم استطاب أنفس الغانمين بما أعطاهم كما فعل في سبي هوازن، وقد روي ذلك عن أبي هريرة، روى خُثَيم بن عِرَاك، عن أبيه، عن نفرٍ من قومه أنَّ أبا هريرة قدم المدينة هو ونفرٌ من قومه فوجدوا النَّبيَّ صلعم قد خرج إلى خيبر. قال: فقدمنا عليه وهو قد فتح خيبر، فكلَّم النَّاس، فأشركنا في سهامهم. وقيل: إنَّما أعطاهم من خيبر ما لم يفتتح بقتالٍ ممَّا قد انجلى عنه أهله بالرُّعب فصار فيئًا؛ لأنَّه لم يوجف عليه بخيلٍ ولا ركابٍ، وبعض خيبر كانت هكذا.
          وقال آخرون: إنَّما أعطى من خيبر لأهل الحديبية خاصَّةً، رواه حمَّاد بن سلمة، عن عليِّ بن زيدٍ(4)، عن عمَّار بن أبي عمَّار، عن أبي هريرة قال: ما شهدت مغنمًا مع رسول الله صلعم إلَّا قسم لي إلَّا خيبر؛ فإنها كانت لأهل الحديبية خاصَّةً شهدوها أو لم يشهدوها؛ لأنَّ الله كان وعدهم بها لقوله تعالى: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا}[الفتح:21]بعد قوله: {وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً}[الفتح:20].
          وقال آخرون: إنَّما أعطاهم من خيبر من الخمس الذي حكمه حكم الفيء، وله أن يضعه باجتهاده حيث شاء، ويمكن أن يذهب البخاريُّ إلى هذا القول، والله أعلم.
          وحديث جابرٍ يحتمل أن يكون من الخمس أو من الفيء وكذلك حديث جابرٍ، إذ قال الرَّجل للنَّبيِّ صلعم: (اعْدِلْ)، يحتمل أن يكون من الخمس؛ لأنَّه إنَّما أنكر الأعرابيُّ الجاهل ما رأى من التَّفضيل، وذلك لا يكون في أربعة أخماس الغنيمة، وإنَّما يكون في الخمس الذي هو موكولٌ إلى اجتهاده صلعم.
          قال إسماعيل بن إسحاق: هذا ممَّا لا يعلم أنَّه من الخمس، وقد قسمه رسول الله بغير وزنٍ،، حدَّثنا بذلك ابن أبي أويسٍ، حدَّثنا أبي، حدَّثنا يحيى بن سعيدٍ، أخبرني أبو الزُّبير أنَّه سمع جابرًا يقول: بصر عيني وسمع أذني رسول الله بالجعرانة وفي ثوب بلالٍ فضةٌ يقبضها للنَّاس يعطيهم فقال له رجلٌ: اعدل … الحديث.
          وقال أبو عبد الله بن أبي صُفرة: فعل الرَّسول صلعم في سبي هوازن يدلُّ أنَّ الغنائم على حكم الإمام إن رأى أن يصرفها إلى ما هو أوكد وأعظم مصلحةً للمسلمين من قسمتها على الغانمين صرفها ولم يعط الغانمين شيئًا، كما فعل بمكَّة فتحها عنوةً ومَنَّ عليهم، ولم يعط أصحابه منها شيئًا، بل أبقاها للرَّحم التي(5) كانت بينه وبينهم، وكذلك أراد أن يفعل بهوازن للرَّضاعة فيهم حين استأنى بالغنائم، فلمَّا أبطأوا قسم، ثمَّ لمَّا جاؤوا ردَّ بعضًا وأبقى للغانمين بعضًا عن طيب أنفسهم، ولم يستطب أنفسهم بمكَّة؛ لأنَّه لم يُمَلِّكهم، واستطاب أنفسهم بهوازن؛ لأنَّه قد كان قسم لهم وملَّكهم، فصحَّ بهذا أنَّه لا شيء لهم إلَّا أن يُملَّكوا، ولذلك قال مالكٌ: يُحدُّ الزَّاني، ويُقطَع السَّارق وإن كان له في الغنيمة سهمٌ، إذا فعل ذلك قبل القسمة، فلو كان له فيها شبهةٌ لدرأ الحدَّ بها؛ لقوله صلعم: ((ادرؤوا الحدود بالشُّبهات)). فدلَّ أنَّه لا شبهة لهم فيها إلَّا أن يملكوها بالقسمة.
          وحكى الطَّبريُّ هذه المقالة عن بعض أهل العلم قالوا: حكم المغانم كلِّها لرسول الله صلعم في مغازيه كلِّها، وله أن يصرفها إلى من شاء، ويحرمها على من حضر القتال، ومن لم يحضر، واعتلُّوا بقوله تعالى: {قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ}[الأنفال:1]وبفعله صلعم في هوازن، ولم يسمِّ القائلين بذلك.
          وقال آخرون: أربعة أخماس الغنيمة حقٌّ للغانمين لا شيء فيه للإمام، وإنَّما هو صلعم كبعض من حضر الوقعة إلَّا ما كان خصَّه الله به من الفيء وخمس الخمس، وأمَّا غير ذلك فلم يكن له فيه شيء.
          قالوا: والذي أعطى صلعم يوم حنينٍ المؤلَّفة قلوبهم إنَّما كان من نصيبه وحقِّه من الغنيمة. وقوله تعالى: {قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ}[الأنفال:1]معناه: له وضعها مواضعها التي أمره الله بوضعها فيها، لا أنَّه ملكها ليعمل فيها ما شاء.
          قالوا: وكيف يجوز أن يكون معنى / قوله: {وَالرَّسُولِ} ملكًا له، وهو صلعم يعزل يوم صدر من حنينٍ، فتناول وبرةً من الأرض وقال: ((ما لي ممَّا أفاء الله عليكم إلَّا الخمس، وهو مردودٌ فيكم)).
          قالوا: فتبيَّن بهذا الحديث أنَّ ما أعطى النَّبيُّ صلعم المؤلَّفة ومن لم يشهد الوقعة إنَّما كان من نصيبه وحقِّه من الغنيمة خاصَّةً.
          وقال أبو عبيدٍ: مكَّة لا تشبه شيئًا من البلاد؛ وذلك أنَّ النَّبيَّ صلعم سنَّ بمكَّة سننًا لم يسنَّها في سائر البلاد. روي عن عائشة أنَّها قالت: يا رسول الله، ألا تبني لك بيتًا يظلُّك من الشَّمس بمكَّة؟ قال: ((لا، إنَّما هي مناخ من سبق)) رواه عن ابن مهديٍّ، عن إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجرٍ، عن يوسف بن مَاهَكَ، عن أمِّه(6)، عن عائشة ♦، وقال عبد الله بن عَمْرو: من أكل من أجور بيوت مكَّة، فإنَّما يأكل في بطنه نار جهنَّم. وكره أهل العلم كراء بيوتها.
          وقال ابن عبَّاسٍ وابن عمر: الحرم كلُّه مسجدٍ.
          وقال مجاهدٌ: مكَّة مناخٌ لا تباع رباعها، ولا تؤخذ أجور بيوتها، ولا تحلُّ ضالَّتها إلَّا لمنشدٍ.
          قال أبو عبيدٍ: فإذا كان حكم مكَّة أنَّها مناخ لمن سبق، وأنَّها مسجدٌ لجماعة المسلمين، ولا تباع رباعها، ولا يطيب كراء بيوتها، فكيف يقاس غيرها عليها.


[1] قوله ((مع)) ليس في (ص) والمثبت من الصحيح.
[2] قوله: ((يقسم)) ليس في (ص) والمثبت من المطبوع.
[3] في (ص): ((الإمام أتى أثر ذلك)) والمثبت من المطبوع وشرح المعاني للطحاوي.
[4] في (ص): ((يزيد)) والمثبت من المطبوع.
[5] في (ز): ((الذي)) والمثبت من المطبوع.
[6] في (ص): ((أمامة)) والمثبت من المطبوع.