شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قول النبي: أحلت لكم الغنائم

          ░8▒ باب قَوْلِ الرَّسول صلعم: (أُحِلَّتْ لَكُمُ الْغَنَائِمُ)
          وقوله: {وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا}الآية[الفتح:20]فَهِيَ لِلْعَامَّةِ حَتَّى يُبَيِّنَهُ الرَّسُولُ صلعم.
          فيه: عُرْوَةُ الْبَارِقِيِّ، قَالَ الرَّسُولُ صلعم: (الْخَيْلُ مَعْقُودٌ في نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ: الأجْرُ وَالْمَغْنَمُ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ). [خ¦3119]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ الرَّسول صلعم: (إِذَا هَلَكَ كِسْرَى، فَلا كِسْرَى بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ، فَلا قَيْصَرَ بَعْدَهُ، والذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا في سَبِيلِ اللهِ). [خ¦3120] /
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ صلعم: (تَكَفَّلَ اللهُ لِمَنْ جَاهَدَ في سَبِيلِهِ بِأَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يَرْجِعَهُ إلى مَسْكَنِهِ مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ). [خ¦3123]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ صلعم: (غَزَا نَبِيٌّ مِنَ الأنْبِيَاءِ، فَقَالَ لِقَوْمِهِ: لا يَتْبَعْنِي رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا، وَلَمَّا يَبْني، وَلا أَحَدٌ بَنَى بُيُوتًا، لَمْ تُرْفَعْ سُقُوفَهَا، وَلا أَحَدٌ اشْتَرَى غَنَمًا أَوْ خَلِفَاتٍ، وَهُوَ يَنْتَظِرُ وِلادَهَا، فَغَزَا فَدَنَا مِنَ الْقَرْيَةِ صَلاةَ الْعَصْرِ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لِلشَّمْسِ: إِنَّكِ مَأْمُورَةٌ، وَأَنَا مَأْمُورٌ، اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيْنَا، فَحُبِسَتْ حَتَّى فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ، فَجَمَعَ الْغَنَائِمَ، فَجَاءَتْ _يَعنِي النَّارَ_ لِتَأْكُلَهَا، فَلَمْ تَطْعَمْهَا، فَقَالَ: إِنَّ فِيكُمْ غُلُولًا، فَلْيُبَايِعْنِي مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ، فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلٍ بِيَدِهِ، قَالَ: فِيكُمُ الْغُلُولُ، فَلْتُبَايِعْنِي قَبِيلَتُكَ، فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلاثَةٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ: فِيكُمُ الْغُلُولُ، فَجَاؤُوا بِرَأْسٍ مِثْلِ رَأْسِ بَقَرَةٍ مِنَ الذَّهَبِ، فَوَضَعُوهَا، فَجَاءَتِ النَّارُ، فَأَكَلَتْهَا، ثُمَّ أَحَلَّ اللهُ لَنَا الْغَنَائِمَ رَأَى ضَعْفَنَا، وَعَجْزَنَا فَأَحَلَّهَا لَنَا). [خ¦3124]
          قال المُهَلَّب: قوله (فَهِيَ لِلعَامَّةِ) يعني: لجميع النَّاس، حتَّى يبيِّن الرَّسول صلعم من يستحقُّها، وكيف تقسم، وقد بيَّن الله بقوله: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ} إلى {السَّبِيلِ}[الأنفال:41]وأمَّا قوله: {وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ}[الفتح:20]فإنَّما خاطب بهذه الآية أهل الحديبية خاصَّةً، ووعدهم بها، فلمَّا انصرفوا من الحديبية فتحوا خيبر، وهي التي عجَّل لهم.
          وقال ابن أبي ليلى: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}[الفتح:18]يعني: خيبر {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا}[الفتح:21]قال: فارس والرُّوم.
          وقال مروان والمسور: انصرف رسول الله صلعم من الحديبية، فنزلت عليه سورة الفتح فيما بين مكَّة والمدينة، فأعطاه الله فيها خيبر، فقدم رسول الله صلعم المدينة في ذي الحجَّة، وسار إلى خيبر في المحرَّم، وقوله: {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ}[الفتح:20]وحيالكم بالمدينة حين ساروا إلى الحديبية وإلى خيبر.
          قال المُهَلَّب: في حديث النَّبيِّ صلعم الذي أمر أن يتَّبعه من لم يتزوَّج: فيه دليلٌ أنَّ فتن الدُّنيا تدعو النَّفس إلى الهلع وتخيُّبِها؛ لأنَّ من ملك بضع امرأةٍ، ولم يبن بها، أو بنى بها، وكان على طراوةٍ منها، فإنَّ قلبه متعلِّق بالرُّجوع إليها، وشغله الشَّيطان عمَّا هو فيه من الطَّاعة، فرمى في قلبه الجزع، وكذلك ما في الدُّنيا من متاعها وقنيتها.
          وفي قوله للشَّمس: (إِنَّكِ مَأْمُورَةٌ) دليلٌ في النَّوم(1)، وأصلٌ في العبادة على ضيق وقت العمل الذي الرأي فيه في اليقظة، وثبات وقته، فيكون تنبيهًا على الأخذ بالحزم.
          وفيه: أنَّ قتال آخر النَّهار وإذا هبَّت رياح النَّصر أفضل، كما كان صلعم يفعل.
          وقوله: (احْبِسْهَا عَلَينَا) دعاءٌ إلى الله أن يمدَّ لهم الوقت حتَّى يفتحوا المدينة. وقيل: في قوله: (احْبِسْهَا عَلَينَا) أقوالٌ: أحدها: أنَّها رُدَّت على أدراجها. وقيل: أوقفت، فلم تبرح. وقيل: بطؤ تجرِّيها وسيرها، وهو أولى الأقوال بجريها على العادة، وإن كان خرق العادة للأنبياء جائزًا، فكلُّ الوجوه جائزةٌ، وكانت المغانم للأنبياء المتقدِّمين يجمعونها في برِّية، فتأتي نارٌ من السَّماء فتحرقها، فإن كان فيها غلولٌ أو ما لا يحلُّ لم تأكلها، وكذلك كانوا يفعلون في قربانهم، كان المتقبَّل تأكله النَّار وما لا يتقبَّل يبقى على حاله لا تأكله. ودعاء هذا النَّبيِّ صلعم قومه بالمبايعة بمصافحة أيديهم اختبارٌ منه للقبيل الذي فيهم الغلول، من أجل ظهور هذه الآية، وهي لصوق يد المبايع بيد النَّبيِّ.
          وفيه: أنَّ الأنبياء قد يحكمون في الأشياء المعجزات بآياتٍ يظهرها الله على أيديهم شهادةً على ما التبس من أمر الحكم، وقد يحكمون أيضًا بحكمٍ لا يكون آيةً معجزةً، ويكون النَّبيُّ صلعم وغيره من الحكَّام سواء، أو يكون اجتهادهم على حسب ما يتأدَّى إليهم من مقالة الخصمين؛ فذلك إنَّما هو ليكون سنَّةً لمن بعدهم.
          وفيه: أنَّ الغنائم لم تحلَّ لأحدٍ غير محمَّد وأمَّته.
          وفيه: دليلٌ على تجديد البيعة إذا(2) احتيج إلى ذلك لأمرٍ وقع، وقد فعل ذلك صلعم تحت الشَّجرة. /
          وفيه: جواز إحراق أموال المشركين وما غُنِم منها.


[1] كذا صورتها في (ص): ((النوم)) لكن بدون نقط والمثبت موافق للتوضيح والعبارة مشكلة وغامضة، ولعل المراد: دليل على المبادرة في العبادة التي أرهق النَّوم وقتها لدرجة الظن بفوات وقتها حال اليقظة، وكذا كل عبادة ضاق وقتها، والله أعلم.
[2] في (ص): ((وإذا)) والمثبت من المطبوع.