شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الدليل على أن الخمس لنوائب رسول الله والمساكين

          ░6▒ باب الدَّلِيلِ على أَنَّ الْخُمُسَ لِنَوَائِبِ النَّبيِّ صلعم وَالْمَسَاكِينِ
          وَإِيثَارِ النَّبيِّ صلعم أَهْلَ الصُّفَّةِ وَالأرَامِلَ حِينَ سَأَلَتْهُ فَاطِمَةُ، وَشَكَتْ إِلَيْهِ الطَّحْنَ وَالرَّحَى أَنْ يُخْدِمَهَا مِنَ السَّبْيِ، فَوَكَلَهَا إلى اللهِ تعالى.
          فيه: عَلِيٌّ: (أَنَّ فَاطِمَةَ اشْتَكَتْ مَا تَلْقَى مِنَ الرَّحَى مِمَّا تَطْحَنُ، فَبَلَغَهَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم أُتِيَ بِسَبْيٍ، فَأَتَتْهُ تَسْأَلُهُ خَادِمًا، فَلَمْ تُوَافِقْهُ، فَذَكَرَتْ لِعَائِشَةَ، فَجَاءَ النَّبيُّ صلعم فَذَكَرَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ لَهُ، فَأَتَانَا، وَقَدْ دَخَلْنَا مَضَاجِعَنَا، فَذَهَبْنَا لِنَقُومَ، فَقَالَ: على مَكَانِكُمَا، حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ على صَدْرِي، فَقَالَ: أَلَا أَدُلُّكُمَا على خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَاهُ، إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا، فَكَبِّرَا اللهَ أَرْبَعًا وَثَلاثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، وَسَبِّحَا ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمَا مِمَّا سَأَلْتُمَاهُ). [خ¦3113]
          قال إسماعيل بن إسحاق: هذا الحديث شاهدٌ أنَّ الإمام يقسم الخمس حيث رأى على الاجتهاد؛ لأنَّ السَّبي الذي أتى النَّبيَّ صلعم لا يكون _والله أعلم_ إلَّا من الخمس؛ إذ كانت الأربعة الأخماس تدفع إلى من حضر الوقعة، ثمَّ منع الرَّسول أقربيه وصرفه إلى غيرهم، وبهذا قال مالكٌ والطَّحاويُّ، وذهب قومٌ أَنْ لذوي قرابة رسول الله صلعم سهمٌ من الخمس مفروضٌ، لقوله: {فَإنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى}[الأنفال:41]وهم: بنو هاشم، وبنو المطَّلب خاصَّةً، لإعطاء رسول الله صلعم إيَّاهم دون سائر قرابته. هذا قول الشَّافعيِّ، وأبي ثورٍ. وذهب قومٌ إلى أنَّ قرابة رسول الله صلعم لا سهم لهم من الخمس معلومًا ولا حظَّ / لهم خلاف حظِّ غيرهم. وقالوا: وإنَّما جعل الله لهم ما جعل من ذلك في الآية المذكورة بحال فقرهم وحاجتهم؛ فأدخلوهم مع الفقراء والمساكين، فكما يخرج الفقير والمسكين من ذلك بخروجهم من المعنى الذي استحقُّوا به ذلك، وهو الفقر، فكذلك قرابة رسول الله صلعم المذكورون معهم إذا استغنوا خرجوا من ذلك.
          قالوا: ولو كان لقرابة رسول الله صلعم حظٌّ لكانت فاطمة ابنته بينهم؛ إذ كانت أقربهم إليه نسبًا، وأمسَّهم به رحمًا، فلم يجعل لها حظًّا في السَّبي، ولا أخدمها، ولكن وكلها إلى ذكر الله وتحميده وتهليله الذي يرجو لها به الفوز من الله، والزُّلفى عنده.
          قال الطَّبريُّ: ولو كان قسمًا مفروضًا لذوي القربى لأخدم ابنته، ولم يكن صلعم ليدع قسمًا اختاره الله لهم وامتنَّ به عليهم؛ لأنَّ ذلك حيفٌ على المسلمين، واعتراضٌ لما أفاء الله عليهم، فأخدم منه ناسًا، وتركه ابنته، ثمَّ لم تدع فيه ♦ حقًّا لقرابةٍ حين وكلها إلى التَّسبيح، ولو كان فرضًا لبيَّنه تعالى كما بيَّن فرائض المواريث.
          قال الطَّحاويُّ: وبذلك فعل أبو بكرٍ وعمر بعد النَّبيِّ صلعم قسما جميع الخمس ولم يريا لقرابة رسول الله صلعم حقًّا خلاف حقِّ سائر النَّاس، ولم ينكره عليهما أحدٌ من أصحاب رسول الله صلعم، ولا خالفهما فيه، وإذا ثبت الإجماع من أبي بكرٍ وعمر وجميع أصحاب النَّبيِّ صلعم ثبت القول به، ووجب العمل به، وترك خلافه، وكذلك فعل عليٌّ لمَّا صار الأمر إليه، حمل النَّاس عليه، على ما ثبت في الباب.
          قال المُهَلَّب: الأثرة بيِّنةٌ في هذا الحديث، وذلك أنَّ ابنة النَّبيِ صلعم لمَّا استخدمته خادمًا، فعلَّمها من تحميده وتسبيحه وتكبيره ما هو أنفع لها بداوم النَّفع، وآثر بذلك الفقراء الذين كانوا في المسجد؛ قد أوقفوا أنفسهم لسماع العلم، وضبط السُّنن على شبع بطونهم، لا يرغبون في كسب مالٍ ولا راحة عيالٍ، فكأنَّهم استأجروا أنفسهم من الله بالقوت، فكان إيثار النَّبيِّ صلعم لهم وحرمان ابنته دليلٌ واضحٌ أنَّ الخمس موقوفٌ(1) للأوكد فالأوكد، وليس على من ذكر الله بالسَّويَّة _كما زعم الشَافعيُّ_ لأنَّه آثر المساكين على ذوي القربى، وهم مذكورون في الآية قبلهم، وإنَّما الأمر موكولٌ فيه إلى اجتهاده صلعم له أن يحرم من يشاء، ويعطي من يشاء.
          وفيه: أنَّ طلبة العلم مقدَّمون في خمس الغنائم على سائر من ذكر الله له فيها اسمًا.
          وذكر إسماعيل بن إسحاق من حديث ابن عيينة وحمَّاد بن سلمة عن عطاء بن السَّائب، عن أبيه، عن عليِّ بن أبي طالبٍ أنَّ النَّبيَّ صلعم قال لعليٍّ وفاطمة: ((لا أخدمكما وأدع أهل الصُّفَّة يطوون جوعًا، لا أجد ما أنفق عليهم، ولكن أبيعه فأنفقه عليهم)).
          قال المُهَلَّب: وفيه من الفقه حمل الإنسان أهله على ما يحمل عليه نفسه من التَّقلُّل في الدُّنيا، وتسليهم عنها بما أعدَّ الله للصَّابرين في الآخرة.
          وفيه: دخول الرَّجل على ابنته، وهى راقدةٌ مع زوجها.
          وفيه: جواز جلوسه بينهما، وهما راقدان ومباشرة قدميه وبعض جسده جسم ابنته، وجواز مباشرة ذوي المحارم، وهو خلاف قول مالكٍ، وقول من أجاز ذلك أولى لموافقة الحديث له.
          وفيه: أنَّ أقلَّ الأعمال الصَّالحة خير مكافأةٍ في الآخرة من عظيمٍ من أمور الدُّنيا، أن يكون التَّسبيح _وهو قولُ خيرٍ_ أجزأ في الآخرة من خادمٍ في الدُّنيا، وعنائها بالخدمة والسِّعاية عن مالكها، فكيف بالصَّلاة والحجِّ وسائر الأعمال التي تُستَعمل فيها الأعضاء والبدن كلُّه.


[1] صورتها في (ص): ((مرقوب)) وكذا المطبوع والمثبت من التوضيح.