شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما ذكر من درع النبي وعصاه وسيفه وقدحه وخاتمه

          ░5▒ باب مَا ذُكِرَ مِنْ دِرْعِ النَّبيِّ صلعم وَعَصَاهُ وَسَيْفِهِ وَقَدَحِهِ وَخَاتَمِهِ / وَمَا اسْتَعْمَلَ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ قِسْمَتُهُ، وَمِنْ شَعَرِهِ وَنَعْلِهِ وَآنِيَتِهِ مِمَّا يَتَبَرَّكُ أَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ.
          فيه: أَنَسٌ: (أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا اسْتُخْلِفَ بَعَثَهُ إلى الْبَحْرَيْنِ، وَكَتَبَ لَهُ هَذَا الْكِتَابَ، وَكَانَ نَقْشُ الْخَاتَمِ ثَلاثَةَ أَسْطُرٍ: مُحَمَّدٌ سَطْرٌ، وَرَسُولُ سَطْرٌ، وَاللهِ سَطْرٌ). [خ¦3106]
          وفيه: أَنَسٌ: (أَنَّهُ أَخْرَجَ نَعْلَيْنِ جَرْدَاوَيْنِ لَهُمَا قِبَالانِ، وهما نَعْلا النَّبيِّ صلعم). [خ¦3107]
          وفيه: أَبُو بُرْدَةَ: (أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا عَائِشَةُ كِسَاءً مُلَبَّدًا، وَقَالَتْ: في هَذَا نُزِعَ رُوحُ النَّبيِّ صلعم. وَقَالَ مرَّةً: أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا إِزَارًا غَلِيظًا مِمَّا يُصْنَعُ بِالْيَمَنِ، وَكِسَاءً مُلَبَّدًا). [خ¦3108]
          وفيه: أَنَسٌ: (أَنَّ قَدَحَ النَّبيِّ صلعم انْكَسَرَ، فَاتَّخَذَ مَكَانَ الشَّعْبِ سِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ). [خ¦3109]
          وفيه: عليُّ بنُ حُسَيْنٍ، أنَّهُ لَقِي الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ، حِينَ قَدِم الْمَدِينَةَ مِنْ عِنْدِ يَزِيدَ مَقْتَلَ حُسَيْنِ بْنِ عَليٍّ، فَقَالَ الْمِسْوَرُ: (هَلْ لَكَ إِليَّ مِنْ حَاجَةٍ تَأْمُرُنِي بِهَا؟ فَقُلْتُ لَهُ: لا، فَقَالَ هَلْ أَنْتَ مُعْطِيَّ سَيْفَ النَّبيِّ صلعم فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَغْلِبَكَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ؟ وَايْمُ اللهِ لَئِنْ أَعْطَيْتَنِيهِ لا يُخْلَصُ إِلَيْهِ أَبَدًا حَتَّى تُبْلَغَ نَفْسِي، إِنَّ عَلِيَّ بْنَ أبي طَالِبٍ خَطَبَ ابْنَةَ أبي جَهْلٍ على فَاطِمَةَ ♀ فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم يَخْطُبُ النَّاسَ في ذَلِكَ على مِنْبَرِهِ هَذَا، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ مُحْتَلِمٌ، فَقَالَ: إِنَّ فَاطِمَةَ مِنِّي، وَأَنَا أَتَخَوَّفُ أَنْ تُفْتَنَ في دِينِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ صِهْرًا لَهُ إلى قَوْلِهِ: وَاللهِ لا تَجْتَمِعُ ابْنَةُ رَسُولِ اللهِ صلعم وابْنَةُ عَدُوِّ اللهِ أَبَدًا). [خ¦3110]
          وفيه: ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ: لَوْ كَانَ عَلِيٌّ ذَاكِرًا عُثْمَانَ ذَكَرَهُ يَوْمَ جَاءَهُ نَاسٌ فَشَكَوْا إلَيهِ سُعَاةَ عُثْمَانَ، فَقَالَ لِي عَليٌّ: اذْهَبْ إلى عُثْمَانَ، فَأَخْبِرْهُ أَنَّهَا صَدَقَةُ رَسُولِ اللهِ صلعم فَمُرْ سُعَاتَكَ يَعْمَلُوا بها، فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ: أَغْنِهَا عَنَّا، فَأَتَيْتُ بِهَا عَلِيًّا، فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: ضَعْهَا حَيْثُ أَخَذْتَهَا. [خ¦3111]
          وَقَالَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا: أَرْسَلَنِي أَبِي: خُذْ هَذَا الْكِتَابَ، فَاذْهَبْ بِهِ إلى عُثْمَانَ، فَإِنَّ فِيهِ أَمْرَ النَّبيِّ صلعم في الصَّدَقَةِ.
          قال: اتِّفاق الأمَّة بعد النَّبيِّ صلعم أنَّه لم يملك أحدٌ درعه ولا عصاه وسيفه وقدحه وخاتمه ونعله، يدلُّ أنَّهم فهموا من قوله: ((لَا نُورَثُ، مَا تَرَكنَا صَدَقَةٌ)) أنَّه عامٌّ في صغير الأشياء وكبيرها فصار هذا إجماعًا معصومًا، لأنَّه لا يجوز على جماعة الصَّحابة الخطأ في التَّأويل، وهذا ردٌّ على الشِّيعة الذين ادَّعوا أنَّ أبا بكرٍ الصِّدِّيق وعمر بن الخطَّاب حرما فاطمة والعبَّاس ميراثهما من النَّبيِّ صلعم.
          وقد روى الطَّبريُّ قال: حدَّثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدَّثنا ابن عليَّة، قال: حدَّثنا أبو إسحاق قال: قلت لأبي جعفرٍ: أرأيت عليًّا حين ولي العراق وما كان بيده من سلطانه كيف صنع في سهم ذي القربى؟ قال: سلك به _والله_ طريق أبي بكرٍ وعمر.
          قال المُهَلَّب: إنَّما ذكر هذه الآثار كلَّها في هذا الباب لتكون سنَّةً للخلفاء في الختم واتِّخاذ الخاتم لما يحتاج فيه إليه، واتِّخاذ السَّيف والدِّرع أيضًا للحرب، وأمَّا الشَّعر فإنَّما استعمله النَّاس على سبيل التَّبرُّك به من النَّبيِّ صلعم خاصَّةً، وليس ذلك من غيره بتلك المنزلة، وكذلك النَّعلان من باب التَّبرُّك أيضًا ليس لأحدٍ في ذلك مزيَة رسول الله صلعم ولا يُتَبرَّك من غيره بمثل ذلك.
          وأمَّا طلب المِسوَر لسيف الرَّسول صلعم من عليِّ بن حسين(1)، فإنَّه أراد التَّبرُّك به؛ لأنَّه من أحباس المسلمين، وكان بيدي الحسين، فلمَّا قتل أراد أن يأخذه المسور لئلَّا يأخذه بنو أميَّة، ثمَّ حلف إن أعطاه إيَّاه أنَّه لا يخلص إليه أبدًا، بشاهدٍ من فعل رسول الله على الحلف والقطع على المستقبل ثقةً بالله في إبراره، واشترط في يمينه شريطةً دون ما حلف عليه صلى الله عليه وهي قوله: ((لَا يُخلَصُ إِلَيهِ حَتَّى يُخلَصَ إِلَى نَفْسِي)).
          وقوله: إنَّ عليَّ بن أبي طالبٍ خطب ابنة أبي جهلٍ على بنت رسول الله صلعم، فكره رسول الله صلعم ذلك، وخطب النَّاس، وعرَّفهم أنَّه لا يحرِّم حلالًا أحلَّه الله ممَّا تعرَّضه عليٌّ من الخطبة على فاطمة، ولكنَّه أعزَّ نفسه وبنته من أن تضارَّها بنت عدوِّ الله، وأقسم على الله / ألَّا يجتمعا عند رجلٍ واحدٍ ثقةً بالله أنَّه يبرَّ قسمه صلعم وقد قال: ((ربَّ أشعثَ ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبرَّه))، والرَّسول أولى النَّاس بهذه المنزلة، فأقسم على ذلك لعلمه أنَّ الله قد منع المؤمنين أذاه؛ لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ}[الأحزاب:53]وقد قال صلعم في ابنته أنَّه يؤذيه ما يؤذيها، فليس لأحدٍ من المؤمنين أن يفعل شيئًا يتأذَّى به النَّبيُّ صلعم، وإن كان فعل ذلك له مباحًا، وسيأتي القول في تمام هذا في كتاب النِّكاح في باب: ذبُّ الرَّجل عن ابنته في الغيرة، إن شاء الله. [خ¦5230]
          وفي حديث ابن الحنفيَّة من الفقه أنَّ الإمام إذا نُسِب إلى خَدَمته أمرٌ أنَّه يجب على أصحابه إعلامه بذلك، وإعلام الصَّواب فيما نسب إليهم، كما فعل عليٌّ، وما قيل في سعاة عثمان وشكي فيهم قد يمكن أن يكون باطلًا، كما شكي سعد بن أبي وقَّاص إلى عمر بالباطل، وقد يجوز أن يكون من بعض سعاة عثمان ما يكون من البشر.
          وأمَّا ردُّ الصحيفة وقوله: (أَغنِهَا عَنَّا) فذلك لأنَّه كان عنده نظيرٌ منها ولم يجهلها، لا أنَّه ردَّها(2) وليس عنده علمٌ منها، ولأنَّه قد كان أمر بها سعاته فلا يجوز على عثمان غير هذا.
          وفيه: أنَّ الصاحب إذا سمع عن السُّلطان أمرًا مكروهًا أن ينبِّه بألطف التَّنبيه، وأن يسند ذلك إلى من كان قبله كما أسند عليٌّ أمر الصَّحيفة إلى رسول الله صلعم، وأسند عروة بن الزُّبير في إنكاره على عُمَر بن عبد العزيز تأخير الصَّلاة إلى أبي موسى، وأنَّه أنكر ذلك على المغيرة بن شعبة فاحتجَّ بأسوةٍ تقدَّمت له في الإنكار على الأئمَّة، ثمَّ أسند له الحديث حين رفعه عمر.
          وقوله: (لَوْ كَانَ عَلِيٌّ ذَاكِرًا عُثْمَانَ بِشَرٍّ) ذكره في هذه القصَّة، فدلَّ أنَّ عليًّا عذر عثمان بالتَّأويل، ولم يكن عنده مخطئًا ولا مذمومًا، وقد تقدَّم فعل أبي بكرٍ وعمر في باب: فرض الخمس. [خ¦3094]
          قال الطَّبريُّ: وأمَّا فعل عثمان في صدقة النَّبيِّ صلعم فحدَّثنا ابن حميدٍ، قال: حدَّثنا جريرٌ عن مغيرة قال: لمَّا ولي عُمَر بن عبد العزيز جمع بني أميَّة فقال: إنَّ النَّبيَّ صلعم كانت له فدَك فكان يأكل منها وينفق ويعود على فقراء بني هاشمٍ ويزوِّج منها أيِّمهم، وأنَّ فاطمة سألته أن يجعلها لها فأبى، فكانت كذلك حياة الرَّسول صلعم حتَّى قبض، ثمَّ ولي أبو بكرٍ فكانت كذلك، فعمل فيها بما عمله رسول الله صلعم حياته، ثمَّ ولي عمر فعمل فيها مثل ذلك، ثمَّ ولي عثمان فأقطعها مروان، فجعل مروان ثلثيها لعبد الملك وثلثها لعبد العزيز، فجعل عبد الملك ثلثيه ثلثًا للوليد، وثلثًا لسليمان، وجعل عبد العزيز ثلثه لي، فلمَّا ولي الوليد جعل ثلثه لي، فلم يكن لي مالٌ أعودَ عليَّ ولا أسدَّ لحاجتي منها، ثمَّ وُلِّيت أنا فرأيت أنَّ أمرًا منعه النَّبيُّ صلعم فاطمة ابنته أنَّه ليس لي بحقٍّ، وإنِّي أشهدكم أنِّي قد رددتها إلى ما كانت عليه في عهد رسول الله صلعم.
          قال الطَّبريُّ: وأمَّا عثمان فإنَّه كان يرى في ذلك أنَّه لقيِّم أمر المسلمين أن يصرفه فيما رأى صرفه فيه، ولذلك أقطعه مروان، وذهب في ذلك إن شاء الله إلى ما حدَّثنا أبو كريبٍ قال: حدَّثنا محمَّد بن فضيلٍ، حدَّثنا الوليد بن جميعٍ، عن أبي الطُّفيل قال: جاءت فاطمة إلى أبي بكرٍ فقالت: أنت ورثت رسول الله صلعم أم أهله؟ قال: بل ورثه أهله. قالت: فما بال سهم الرَّسول صلعم؟ قال: سمعت النَّبيَّ صلعم يقول: ((إذا أطعم الله نبيًّا طعمةً فقبض، فهو للذي يقوم بعده))، فرأيت أن أجعلها في الكراع والسِّلاح. قالت: فأنت وما سمعت من رسول الله صلعم. وبهذا قال الحسن وقَتادة.
          قال الطَّبريُّ: فإن قال قائلٌ: فما وجه هذا الحديث وقد صحَّ عن النَّبيِ صلعم أنَّه قال: ((ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤونة عاملي فهو صدقةٌ)) فكيف يكون وهو صدقةٌ ملكًا لمن يقوم بعده؟
          قيل: معنى قوله صلعم: ((فهو للذي يقوم بعده)) / يعمل فيه ما كان صلعم يعمل ويسلك به المسلك الذي كان يسلك، لا أنَّه جعله ملكًا، وهذا التَّأويل يمنع الخبرين من التَّنافي.
          فإن قيل: وما ينكر أن يكون صدقةً له من رسول الله صلعم تصدَّق بها عليه بعد وفاته؛ إذ كانت صدقة التَّطوُّع عندك حلالًا للغنيِّ والفقير، وإنَّما الحرام منها ما كان فرضًا على الأغنياء؛ لأنَّ الله جعلها لأهل السِّهمان في كتابه؟
          قيل: أنكرنا ذلك من أجل أنَّه لو كان كذلك صحَّ أنَّه كان لأبي بكرٍ ملكًا، ولوجب أن يكون بعد أبي بكرٍ موروثًا عنه، إذ كان أبو بكرٍ قد ورَّثه أهله، وقيام الحجَّة بأنَّه لم يورث عنه، للدَّلالة الواضحة على أنَّه لم يكن لوليِّ الأمر من بعد رسول الله صلعم ملكًا، وإنَّما كان إليه صرف غلَّات ذلك في وجوهها وسُبُلها.
          فإن قيل: فما معنى قول أبي بكرٍ لفاطمة: بل ورثه أهله؟
          قيل: معنى ذلك: بل ورثه أهله إن كان خلَّف شيئًا يورِّثه، ولم يترك شيئًا يورث عنه؛ لأنَّ ما كان بيده من الأموال ممَّا لم يوجف عليه بخيلٍ ولا ركابٍ إنَّما كان طعمةً من الله له، على أن يأكل منه هو وأهله ما احتاج واحتاجوا، ويصرف ما فضل عن ذلك في تقوية الإسلام وأهله، فقبضه الله ولم يخلِّف شيئًا هو له ملكٌ يقتسمه أهله عنه ميراثًا. ويبيِّن ذلك قول عائشة: ((مات رسول الله صلعم ولم يترك دينارًا ولا درهمًا ولا بعيرًا ولا شاةً، ولقد مات وإنَّ درعه لمرهونةٌ بوسقٍ من شعيرٍ)).
          وقول عثمان: (أَغنِها عَنَّا) يقول: اصرفها عنَّا، يقال: أغنيت عنك كذا: صرفته عنك. ومنه قوله تعالى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}[عبس:37]يعني: يصرفه. قال صاحب «الأفعال»: أغنى عنك الشَّيء صرف عنك ما تكره. وفي القرآن: {مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}[الحجر:84]و{مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ}[الحاقة:28].
          وقوله: (ممَّا يَتَبرَّكُ أَصْحَابُهُ) المعنى: يتبرك به، وحذف به جائز، كحذفها من قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ}[الحجر:94]وحذف الأدوات موجودٌ سائغٌ؛ لقوله: {يَوْمًا لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا}[البقرة:124]تقديره: تجزي فيه. قال الشاعر:
إِنَّ الكريـمَ وأَبِيـكَ مُعْتَمِـلٌ                     إِنْ لـَمْ يَجـِدْ يَومـًا عَلَى مَـنْ يَتَّكِلُ
          يريد: يتكل عليه.


[1] في (ص):((حسين بن علي)) والمثبت من المطبوع.
[2] في (ص): ((لا استردها)) والمثبت من المطبوع.