عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب ما قيل في العمرى والرقبى
  
              

          ░32▒ (ص) بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ، بَابُ مَا قِيلَ فِي الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى.
          (ش) / ثبتت البسملة في رواية الأصيليِّ وكريمة قبل لفظ: (باب).
          قوله: (بَابُ مَا قِيلَ) أي: هذا بابٌ في بيان ما قيل في أحكام العُمْرى والرُّقبى.
          (الْعُمْرَى) بِضَمِّ العين المُهْمَلة وسكون الميم مقصورًا، وحُكِي بِضَمِّ العين والميم جميعًا، وبفتح العين وسكون الميم، وقال ابن سِيدَه: «العُمْرَى» مصدرٌ كـ«الرُّجْعَى»، وأصل «العُمْرَى» مأخوذٌ مِنَ العُمْر، و(الرُّقْبَى) بوزن (العمرى) كلاهما على وزن (فُعْلَى) وأصل (الرُّقْبَى) : مِن المراقبة.
          فَإِنْ قُلْتَ: ذكر في الترجمة العُمْرى والرُّقْبى، ولم يذكر في الباب إلَّا حديثين في العُمْرَى، ولم يذكر شيئًا في الرُّقْبى؟
          قُلْت: قيل: إنَّهما متَّحدان في المعنى، فلذلك اقتصر على العُمْرى، على أنَّ النَّسائيَّ روى بإسنادٍ صحيحٍ عن ابن عَبَّاسٍ موقوفًا: (العُمْرى والرَّقْبى سواء).
          قُلْت: هذا الجواب غير مُقْنعٍ؛ لأنَّا لا نسلِّم الاتِّحادَ بينهما في المعنى، فـ(العُمْرى) مِنَ العُمْرِ، و(الرُّقْبى) مِنَ المراقبة، وبينهما أيضًا فرقٌ في التعريف، على ما يجيء بيانه، ومعنى قول ابن عَبَّاسٍ: (هما سواءٌ) يعني: في الحكم، وهو الجواز، لا أنَّهما سواءٌ في المعنى.
          (ص) أَعْمَرْتُهُ الدَّارَ فَهْيَ عُمْرَى: جَعَلْتُهَا لَهُ.
          (ش) أشار بها إلى تفسير (العمرى) وهو أن يقول الرجلُ لغيره: أعمرته داري؛ أي: جعلتها له مدَّة عمري، وقال أبو عُبَيدٍ: العُمْرى: أن يقول الرجلُ للرجل: داري لك عمرك، أو يقول: داري هذه لك عمري، فإذا قال ذلك وسلَّمها إليه؛ كانت للمُعْمر ولم ترجع إليه إن مات، وكذا إذا قال: أعمرتك هذه الدار، أو: جعلتها لك حياتك، أو: ما بقيت، أو: ما عشت، أو: ما حَييتُ، وما يفيد هذا المعنى.
          وقال شيخنا ☼: العُمْرَى على ثلاثة أقسام:
          أحدها: أن يقول: أعمرتك هذه الدار، فإذا مُتَّ فهي لعقبك أو ورثتك، فهذه صحيحةٌ عند عامَّة العلماء، وذكر النَّوَوِيُّ أنَّهُ لا خلافَ في صحَّتها، وإِنَّما الخلاف هل يملك الرقبة أو المنفعة فقط؟ فسنذكره إن شاء الله تعالى.
          القسم الثاني: ألَّا يذكرَ ورثتَه ولا عقبَه، بل يقول: أعمرتك هذه الدار، أو: جعلتها لك، أو نحو هذا، ويُطلِق... ففيها أربعة أقوالٍ:
          أصحُّها: الصحَّة كالمسألة الأولى، ويكون له ولورثته مِن بعده، وهو قول الشَّافِعِيِّ في الجديد، وبه قال أبو حنيفة وأحمد وسفيان الثَّوْريُّ وأبو عُبَيدٍ وآخرون.
          القول الثاني: أنَّها لا تصحُّ؛ لأنَّه تمليكٌ مؤقتٌ، فأشبه ما لو وهبه أو باعه إلى وقتٍ معيَّنٍ، وهو قول الشَّافِعِيِّ في القديم.
          الثالث: أنَّها تصحُّ، ويكون للمُعْمَر في حياته فقط، فإذا مات رجعت إلى المُعْمِر أو إلى ورثته إن كان قد مات، وحُكِي هذا أيضًا عن القديم.
          والرابع: أنَّها عاريةٌ يستردُّها المُعمِر متى شاء، فإذا مات عادت إلى ورثته.
          القسم الثالث: ألَّا يذكر العقب ولا الورثة، ولا يقتصر على الإطلاق، بل يقول: فإذا متَّ رجعت إليَّ، أو: إلى ورثتي إن كنت مُتُّ، فإن قلنا بالبطلان في حالة الإطلاق فههنا أولى، وكذلك في الإطلاق بالصحَّة، وعودها بعد موت المُعمَر إلى المُعْمِر، وإن قلنا: إِنَّها تصحُّ في حالة الإطلاق، ويتأبَّد الملك؛ ففيه وجهان لأصحاب الشَّافِعِيِّ؛ أحدهما: عدم الصحَّة، قال الرافعيُّ: وهو أسبق إلى الفهم، ورجَّحه القاضي ابن كجٍّ وصاحب «التتمَّة»، وبه جزم الماورديُّ، والثاني: يصحُّ، ويلغو الشرط، وعزاه الرافعيُّ للأكثرين.
          ثُمَّ اختلف العلماء فيما يَنْتَقل إلى المُعمَر؛ هل ينتقل إليه ملك الرقبة حَتَّى يجوز له البيع والشراء والهبة وغير ذلك مِنَ التصرُّفات، أو إِنَّما تنتقل إليه المنفعة فقط كالوقف؟ فذهب الجمهور إلى أنَّ ذلك تمليكٌ للرقبة، وهو قول أبي حنيفة والشَّافِعِيُّ وأحمد، وذهب مالكٌ إلى أنَّهُ إِنَّما يملك المنفعة فقط، فعلى هذا فَإِنَّها ترجع إلى المُعمِر إذا مات المُعمَر عن غير وارثٍ، أو انقرضت ورثته، ولا يرجع إلى بيت المال.
          ثُمَّ ههنا مسائل متعلِّقةٌ بهذا الباب.
          الأولى: العُمْرى المذكورة في أحاديث هذا الباب وفي غيره، هل هي عامَّةٌ في كلِّ ما يصحُّ تمليكه مِنَ العقار والحيوان والأثاث وغيرها، أو يختصُّ ذلك بالعقار؟ الجواب: أنَّ أكثر ورود الأحاديث في الدور والأراضي، فإمَّا أن يكون خرج مخرج الغالب فلا يكون له مفهومٌ، ويعمُّ الحكمُ كلَّ ما يصحُّ تمليكه، أو يُقَال: هذا الحكم ورد على خلاف الأصل، فيقتصر / على مورد النصِّ، فلا يُتَعدَّى به إلى غيره، قال شيخنا: لم أرَ مَن تعرَّض لذلك، إلَّا أنَّ الرافعيَّ مثَّل في أمثلة العُمْرى بغير العقار، فقال: ولو قال: داري لك عمرك فإذا متَّ فهي لزيدٍ، أو: عبدي لك عمرك فإذا متَّ فهو حرٌّ، تصحُّ العمرى على قولنا الجديد، ولغى المذكور بعدها، فعُلِمَ مِن هذا جريانُ الحكم في العبيد وغيرهم.
          الثانية: هل يستوي في العُمْرَى تقييد ذلك بعمر الواهب كما لو قيَّده بعمر الموهوب؟ فعن أبي عُبَيدٍ التسوية بينهما؛ لأنَّه فسَّر العُمْرى بأن يقول للرجل: هذه الدار لك عمرك أو عمري، ولكن عند أصحاب الشَّافِعِيِّ عدم الصحَّة في هذه الصورة، قال الرافعيُّ: ولو قال: جعلتُ لك هذه الدار عمري أو حياتي.
          الثالثة: إذا قيَّد الواهب العُمْرى بعمر أجنبيٍّ؛ بأن قال: جعلتُ هذه الدار لك عُمرَ زيدٍ؛ فهل يصحُّ؟ قال الرافعيُّ: أُجْريَ فيه الخلافُ فيما إذا قال: عمري أو حياتي، فعلى هذا فالأصحُّ عدم الصحَّة؛ لخروجِه عن اللَّفظ الوارد فيه.
          الرابعة: إذا لم يشترط الواهبُ الرجوعَ بعد موتِ المُعْمَر لنفسِه، بل شرطه لغيره فقال: فإذا متُّ فهي لزيدٍ؛ قال الرافعيُّ: يصحُّ ويلغو الشرطُ، وكذا لو قال: أعمرتك عبدي، فإذا متُّ فهو حرٌّ؛ فإنَّه يصحُّ ويلغو الشرط على الجديد.
          الخامسة: إذا لم يذكر العمر في العقد بل أورده بصيغة الهبة، كما إذا قال: وهبتك هذه الدار، فإذا مُتَّ رجعت إليَّ فهذا لا يصحُّ، قال الرافعيُّ: ظاهر المذهب: فسادُ الهبة والوقف بالشروط التي يفسد بها البيع، بخلاف العُمْرَى لما فيها مِنَ الإخبار.
          السادسة: إذا أتى بما يقتضي العُمْرَى ولكن بصيغة البيع، فقال: ملَّكتك هذه الدار بعشرةٍ عمرَك؛ فنقل الرافعيُّ عن ابن كجٍّ أنَّهُ قال: لا ينعقد عندي جوازه تفريعًا على الجديد، وقال أبو عليٍّ الطَّبَريُّ: لا يجوز، قال شيخنا: ما قاله أبو عليٍّ هو الصحيح نقلًا وتوجيهًا، فقد جزم به ابن سريجٍ وأبو إسحاق المَرْوَزِيُّ والماورديُّ، وما نقله عن ابن كجٍّ احتمالٌ، وقال به ابن خيران فيما حكاه صاحب «التحرير».
          السابعة: هل تجوز الوصيَّة بالعُمْرى بأن يقول: إذا مُتُّ فهذه الدار لزيدٍ عمره كما يجوز تنجيزها؟ فقال به الرافعيُّ، ولكنَّها تُعتَبر مِنَ الثُّلُث.
          الثامنة: لا يجوز تعليق العُمْرى بغير موت المُعمِر، كقوله: إذا مات فلانٌ فقد أعمرتك هذه الدار.
          وأَمَّا الرُّقْبى فهو أن يقول الرجلُ للرجل: أرقبتك داري إن مُتُّ قبلك فهي لك، وإن مُتَّ قبلي فهي لي، وهو مشتقٌّ مِنَ الرُّقوب، فكأنَّ كلَّ واحدٍ منهما يترقَّب موتَ صاحبه، وقال التِّرْمِذيُّ: ذهب بعض أهل العلم مِن أصحاب النَّبِيِّ صلعم وغيرهم أنَّ الرُّقبى جائزةٌ مثل العُمْرى، وهو قول أحمد وإسحاق، وفرَّق بعض أهل العلم مِن أهل الكوفة وغيرهم بين العُمْرَى والرُّقْبَى، فأجازوا العُمْرَى ولم يُجِيزوا الرُّقْبَى، وقال صاحب «الهداية»: العُمْرَى جائزةٌ للمُعمَر له في حال حياته ولورثته مِن بعده.
          قُلْت: وهذا قول جابر بن عبد الله وعبد الله بن عَبَّاسٍ وعبد الله بن عُمَر وعليِّ بن أبي طالبٍ، ورُويَ عن شُرَيحٍ ومجاهدٍ وطاووس والثَّوْريِّ، وقال صاحب «الهداية» أيضًا: والرُّقْبَى باطلةٌ عند أبي حنيفة ومُحَمَّدٍ ومالكٍ، وقال أبو يوسف: جائزةٌ، وبه قال الشَّافِعِيُّ وأحمد.
          (ص) {اسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} جَعَلَكُمْ عُمَّارًا.
          (ش) أشار بهذا إلى أنَّ مِنَ العُمْرَى أن يكون (استعمر) بمعنى (أعمر) كـ(استهلك) بمعنى (أهلك) أي: أعمركم فيها دياركم، ثُمَّ هو يرثها منكم بعد انقضاء أعماركم، وفي «التهذيب» للأزهريِّ: أي: أذِنَ لكم في عمارتها واستخراج قُوتِكم منها، وقيل: {اسْتَعْمَرَكُمْ} مِن العمر؛ نحو: (استبقاكم) مِنَ (البقاء)، وقيل: {اسْتَعْمَرَكُمْ} أي: أعمركم بالعمارة.
          قوله: (عُمَّارًا) بِضَمِّ العين وتشديد الميم.