عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قبول الهدية من المشركين
  
              

          ░28▒ (ص) بابُ قَبُولِ الْهَدِيَّةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيانِ جواز قَبول الهديَّة مِنَ المشركين، وكأنَّه أشار بهذا إلى ضعف الحديث الوارد في ردِّ هديَّة المشرك، وهو ما أخرجه موسى بن عُقبة في (المغازي) عن ابن شهابٍ عن عبد الرَّحْمَن بن كعب بن مالكٍ، ورجالٍ مِن أهل العلم أنَّ عامر بن مالكٍ الذي يدعى مُلَاعِبَ الأَسِنَّة قدمَ على رسول الله صلعم وهو مشركٌ فأهدى له، فقال: «إنِّي لا أقبلُ هديَّة مشركٍ...» الحديث، رجاله ثقاتٌ إلَّا أنَّهُ مرسلٌ، وقد وصله بعضهم عَنِ الزُّهْريِّ ولا يصحُّ، وفي الباب عياض بن حِمَار أخرجه أبو داود والتِّرْمِذيُّ وغيرهما مِن طريق قتادة عن يزيد بن عبد الله عن عياض قال: أهديت للنبيِّ صلعم ناقةً، فقال: «أسلمتَ؟» قُلْت: لا، قال: «إنِّي نُهِيتُ عَن زَبْدِ المشركين»، وقال التِّرْمِذيُّ: هذا حديثٌ صحيحٌ، ومعنى قوله: «إنِّي نُهِيْتُ عَن زَبْد المشركين» يعني: هداياهم.
          قُلْت: «الزَّبْدُ» بفتح الزاي وسكون الباء المُوَحَّدة وفي آخره دالٌ مُهْمَلة، وهو الرِّفد والعطاء، يقال منه: زَبَدَه يزبِده؛ بالكسر، فأَمَّا يزبُده بالضم؛ فهو إطعامُ الزُّبْدِ، وقال الخَطَّابيُّ: يُشبِهُ أن يكون هذا الحديث منسوخًا؛ لأنَّه قَبِلَ هديَّة غير واحدٍ مِنَ المشركين، أهدى له المقوقس مارية والبغلة، وأهدى له أكيدِرُ دُومَة فَقَبِل مِنْهُمَا، وقيل: إِنَّما رَدَّ هديَّته؛ لِيُغِيظَهُ بردِّها فيحمله ذلك على الإسلام، / وقيل: رَدَّها لأنَّ للهديَّة موضعًا مِنَ القلب، ولا يجوز أن يميلَ بقلبه إلى مشركٍ، فردَّها قطعًا لسببِ الميل، وليس ذلك مناقضًا لقبول هديَّة النجاشيِّ والمقوقس وأكيدِر؛ لأنَّهم أهل كتابٍ انتهى.
          قُلْت: رُوِيَ في هذا الباب عَن جماعةٍ مِنَ الصحابة:
          عن جابرٍ ☺ رواه ابن عَدِيٍّ في «الكامل» عنه، قال: أهدى النجاشيُّ إلى رسول الله صلعم قارورةً مِن غاليةٍ، وكان أَوَّل مَن عُمِلَ له الغاليةُ، ولم أجد في هدايا الملوك له صلعم مِن حديث جابرٍ إلَّا هذا الحديث، والنجاشيُّ كان قد أسلم، ولا مدخل للحديث في الباب إلَّا أن يكون أهداه له قبل إسلامه، وفيه نظرٌ، ويحتمل أن يُرادَ بالنجاشيِّ نجاشيٌّ آخر مِن ملوك الحبشة لم يُسلِم؛ كما في الحديث الصحيح عند مسلمٍ مِن حديث أنسٍ ☺ : أنَّ النَّبِيَّ صلعم كتب قبل موتِه إلى كسرى وقيصَر وإلى النجاشيِّ وإلى كلِّ جبار يدعوهم... الحديث.
          وعن أبي حُمَيْدٍ الساعديِّ قال: غزونا مَعَ النَّبِيِّ صلعم ... الحديث، وفيه: وأهدى ملكُ أَيْلَة إلى رسول الله صلعم بغلةً بيضاء، فكساه رسول الله صلعم بُرْدَة، وكتب له ببحرهم، أخرجه الشيخان على ما يجيء إن شاء الله تعالى.
          وعن أنسٍ أخرجه مسلمٌ والنَّسائيُّ مِن رواية قتادة عنه: أنَّ أكيدر دُومَة الجندل أهدى إلى رسول الله صلعم جُبَّة مِن سُنْدسٍ، ولأنسٍ حديثٌ آخر رواه ابن أبي شَيْبَةَ في «مصنَّفه» وأحمد والبَزَّار في «مُسندَيهما» قال: أهدى الأكيدر لرسول الله صلعم جَرَّةً مِن مَنٍّ، فجعل يقسمها بيننا، وقال البَزَّار: فقبِلَها، ولأنسٍ حديث آخر رواه ابن عَدِيٍّ في «الكامل» مِن رواية عليِّ بن زيد عَن أنسٍ: أنَّ ملك الروم أهدى إلى رسول الله صلعم مُمَشَقَّةً مِن سُنْدُس، فلبسها، أَوْرَدَهُ في ترجمة عليٍّ وضعَّفه.
          قُلْت: (المُمَشَّقَة) بِضَمِّ الميم الأولى وفتح الثانية وتشديد الشين المُعْجَمة وبالقاف: هو الثوب المصبوغُ بالمِشْقِ _بكسر الميم_ وهو المُغْرَة.
          ولأنسٍ حديثٌ آخر رواه أبو داود مِن رواية عُمارة بن زاذان عن ثابتٍ عن أنسٍ: أنَّ ملك ذي يَزَن أهدى إلى رسول الله صلعم حُلَّةً أخذها بثلاثةٍ وثلاثين ناقةً، فقبلها.
          وعن بلال بن رَبَاح أخرجه أبو داود عنه حديثًا مطوَّلًا وفيه: ألم تَرَ إلى الركائب المُناخات الأربع؟ فقُلْت: بلى، فقال: إنَّ لك رقابهنَّ وما عليهنَّ، فإنَّ عليهنَّ كسوةً وطعامًا أهداهنَّ إليَّ عظيمُ فَدَك، فاقبضهنَّ واقضِ دينك.
          وعن حَكيم بن حِزام [أخرجه أحمد في «مسنده» والطبرانيُّ في «الكبير» مِن رواية عِرَاك بن مالكٍ أنَّ حكيم بن حِزام] قال: كان مُحَمَّد أحبَّ رجلٍ في الناس إليَّ في الجاهليَّة، فلمَّا تنبَّأ وخرج إلى المدينة؛ شهد حكيم بن حزام الموسم وهو كافرٌ، فوجد حُلَّة لذي يَزَن تباعُ، فاشتراها بخمسين دينارًا؛ ليُهديَها لرسول الله صلعم ، فقدِم بها عليه المدينة، فأراده على قبضها هديَّة فأبى، قال عبد الله: حسبته قال: إنَّا لا نقبل شيئًا مِنَ المشركين، ولكن إن شئت أخذناها بالثمن، فأعطيته حين أبى عليَّ الهديَّةَ.
          وعن عبد الله بن الزُّبَير أخرجه أحمد والطبرانيُّ أيضًا مِن رواية عامر بن عبد الله بن الزُّبَير عن أبيه قال: قدمت قُتَيْلَةُ ابنة عبد العزَّى على ابنتها _أسماء بنت أبي بكرٍ ☻_ بهدايا؛ ضِبابًا وقَرظًا وسَمْنًا _زاد الطبرانيُّ: وهي مشركةٌ_ فأبت أسماء أن تقبل هديَّتها وتُدخِلها بيتها، فسألت عائشةُ ♦ النَّبِيَّ صلعم ، فأنزل الله ╡ : {لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} الآية[الممتحنة:8] فأمرها أن تقبل هَدِيْتَهَا وَتُدْخِلَهَا بَيْتَهَا.
          وعَن عبد الله بن عَبَّاسٍ أخرجه الطبرانيُّ في «الكبير» مِن رواية إبراهيم بن عثمان ابن أبي شَيْبَةَ عَنِ الحكَم عَن مِقسَم عن ابن عَبَّاسٍ: أنَّ الحَجَّاج بن عِلاط أهدى لرسول الله صلعم سيفه ذا الفِقار، ودحية الكلبيُّ أهدى / له بغلته الشهباء، وفي ترجمة أبي شَيْبَة رواه ابن عَدِيٍّ في «الكامل» وضعَّفه، ولابن عَبَّاسٍ حديثٌ آخر رواه البَزَّار في «مسنده» مِن رواية مَنْدَل عن ابن إسحاق عَنِ الزُّهْريِّ عن عُبيد الله بن عبد الله عن ابن عَبَّاسٍ قال: أهدى المقوقِس إلى رسول الله صلعم قدح قوارير، فكان يشرب فيه.
          وعَن حنظلة الكاتب أخرجه الطبرانيُّ في «الكبير» عنه: أنَّهُ قال: أهدى المقوقس _ملك القبط_ إلى النَّبِيِّ صلعم هديَّةً وبغلةً شهباء فقبلها صلعم .
          وعن دِحْية الكلبيِّ أخرجه الطبرانيُّ في «الكبير» عنه أنَّهُ قال: أهديتُ لرسول الله صلعم جُبَّة صوفٍ وخُفَّين، فلبسهما حَتَّى تخرَّقا ولم يسأل عنهما، ذُكَّيا أم لا؟ انتهى.
          قُلْت: كان ذلك قبل إسلامه.
          وعن بُريدةَ بن الحُصَيب أخرجه الطبرانيُّ في «الأوسط» عن عبد الله بن بُريدَة عَن أبيه قال: أهدى أمير القبط لرسول الله صلعم جاريتين أُختين وبغلةً، فكان رسول الله صلعم يركبها، وأَمَّا إحدى الجاريتين فتسرَّاها فولدت له إبراهيم، وأَمَّا الأخرى فأعطاها حسَّان بن ثابت الأنصاريَّ.
          وعن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ أخرجه ابن عَدِيٍّ في «الكامل» عنه قال: أهدى ملك الروم إلى رسولِ الله صلعم جرَّةَ زنجبيلٍ، فقسمها بين أصحابه.
          وعن المغيرة بن شعبة أخرجه التِّرْمِذيُّ من رواية الشعبيِّ عنه قال: أهدى دِحْية الكلبيُّ لرسول الله صلعم خُفَّين فلبسهما.
          وعن عائشة ♦ أخرجه الطبرانيُّ في «الأوسط» مِن رواية عطاء عنها قالت: أهدى المقوقس صاحب الإسكندريَّة إلى رسول الله صلعم مِكحلةً عيدان شاميَّة ومِرْآةً ومُشطًا.
          وعَن داود بنِ أبي داود عَن جدِّه أخرجه ابن قانعٍ عنه: أنَّ النَّبِيَّ صلعم أهدى له قيصرُ جُبَّةً مِن سندسٍ، فأتى أبا بكرٍ وعمر ☻ يُشاورهما، فقالا: يا رسول الله؛ نرى أن تلبسها، يُبْكِتُ اللهُ عدوَّك، ويُسَرُّ المسلمون، فلبسها وصعد المنبر... الحديث، وفي إسناده جهالةٌ.
          ثُمَّ التوفيق بين هذه الأحاديث ما قاله الطَّبَريُّ بأنَّ الامتناع فيما أهدى له خاصَّةً، والقبول فيما أُهدِيَ للمسلمين، وقيل: الامتناع في حقِّ مَن يريدُ بهديَّته التودُّد، والقبول في حقِّ مَن يُرجى بذلك تأنيسه وتأليفه على الإسلام، وقيل: يحمل القبول على مَن كان مِن أهل الكتاب، والردُّ على مَن كان مِن أهل الأوثان، وقيل: يمتنع ذلك لغيره مِنَ الأمراء؛ لأنَّ ذلك مِن خصائصه، وقيل: نُسِخَ المنع بأحاديث القبول، وقيل: بالعكس، والله أعلم.