عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب الهبة للولد
  
              

          ░12▒ (ص) باب الْهِبَةِ لِلْوَلَدِ، وَإِذَا أَعْطَى بَعْضَ وَلَدِهِ شَيْئًا؛ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَعْدِلَ وَيُعْطِيَ الآخَرِينَ مِثْلَهُ، وَلَا يُشْهَدُ عَلَيْهِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان حكم هبة الوالد لولده، وإذا أعطى _أي: الأب_ بعضَ ولده شيئًا لم يجز حَتَّى يعدل؛ يعني: في العطاء للكلِّ، ويعطي الآخرين؛ أي: الأولاد الآخرين، وهذه رواية الكُشْميهَنيِّ، وفي رواية غيره: <ويُعطي الآخر> بصيغة الإفراد، وصدَّر الترجمة بالهبة للولد لدفع إشكال مَن يأخذ بظاهر حديث: «أنت ومالُك لأبيك»، فإنَّ المال إذا كان للأب فلو وهب منه شيئًا لولده كان كأنَّه قد وهب مال نفسه لنفسه، وقال بعضهم: ففي الترجمة إشارةٌ إلى ضعف هذا الحديث أو إلى تأويله.
          قُلْت: بأيِّ وجه تدلُّ هذه الترجمة إلى ضعف هذا الحديث؟ فلا وجه لذاك أصلًا، على أنَّ الحديث المذكور صحيحٌ، ورواه ابن ماجة في «سُنَنِه»: حدَّثنا هشام بن عمَّار: حدَّثنا عيسى بن يونس: حدَّثنا يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق السَّبِيعيِّ، عن مُحَمَّد بن المُنْكَدِر عن جابرٍ: أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله؛ إنَّ لي مالًا وولدًا، وإنَّ أبي يريد أن يجتاح مالي، قال: «أنت ومالُك لأبيك»، قال ابن القَطَّان: إسناده صحيح، وقال المنذريُّ: رجاله ثقاتٌ، وقال في «التنقيح»: ويوسف بن إسحاق مِنَ الثقات المخرِّج لهم في «الصحيحين» قال: وقول الدَّارَقُطْنيِّ فيه: غريبٌ، تفرَّد به عيسى عن يوسف، لا يضرُّه، فإنَّ غرابة الحديث والتفرُّد به لا يخرجه عن الصحَّة، وطريق آخر أخرجه الطبرانيُّ في «الصغير» والبَيْهَقيُّ في «دلائل النبوَّة» في حديث جابرٍ قال: جاء رجلٌ إلى النَّبِيِّ صلعم فقال: يا رسول الله؛ إنَّ أَبِيَه يريد أن يأخذ مَالِيَه... الحديث بطوله، وفي آخره: قال: بكى رسول الله صلعم ثُمَّ أخذ بتَلْبيب ابنه، وقال له: «اذهب، فأنت ومالك لأبيك».،وفيه: عن عائشة أيضًا، رواه ابن حِبَّان في «صحيحه»: أنَّ رجلًا أتى النَّبِيَّ صلعم يخاصم أباه في دَين له عليه، فقال له صلعم : «أنت ومالك لأبيك»، وعن سَمُرة بن جُنْدب أخرجه البَزَّار في «مسنده» والطبرانيُّ في «معجمه» فذكره بلفظ ابن ماجه، وعن عمر ☺ أخرجه البَزَّار في «مسنده» عنه مرفوعًا بلفظ ابن ماجه، وفي سنده مقالٌ، وعن ابن مسعود أخرجه الطبرانيُّ في «معجمه» أنَّ النَّبِيّ صلعم قال لرجل: «أنت ومالك لأبيك»، وفيه مقالٌ، وعن ابن عمر أخرجه أبو يَعْلَى في «مسنده» عنه مرفوعًا بلفظ ابن مسعود.
          قوله: (وَإِذَا أَعْطَى بَعْضَ وَلَدِهِ...) إلى قوله: (مِثْلَهُ)، اختلف العلماء مِنَ التَّابِعين وغيرهم فيه؛ فقال طاووس وعطاء بن أبي رَبَاح ومجاهد وعروة وابن جُرَيْج والنخعيُّ والشعبيُّ وابن شُبْرُمَة وأحمد وإسحاق وسائر الظاهريَّة: أنَّ الرجل إذا نحل بعض بنيه دون بعض؛ فهو باطلٌ، وقال أبو عمر: اختُلِف في ذلك عَن أحمد، وأصحُّ شيء عنه في ذلك ما ذكره الخِرَقيُّ في «مختصره» عنه قال: وإذا فَضَّل بعض ولده في العطيَّة أُمِر بردِّه، فإن مات ولم يردَّه فقد ثبت لِمَن وُهِب له، إذا كان ذلك في صحَّته، واحتجُّوا في ذلك بحديث النعمان بن بشير، يقول: نحلني أبي غلامًا، فأمرتني أمِّي أن أذهب إلى رسول الله صلعم لأُشْهِدَه على ذلك، فقال: «أكلَّ ولدك أعطيتَه؟» فقال: لا، قال: «فاردده»، أخرجه الجماعة غير أبي داود، وقال الثَّوْريُّ والليث بن سعدٍ والقاسم بن عبد الرَّحْمَن ومُحَمَّد بن المُنْكَدِر وأبو حنيفة وأبو يوسف ومُحَمَّد ومالك والشَّافِعِيُّ، وأحمد في رواية: يجوز أن ينحل لبعض ولده دون بعض، وسيأتي الكلام فيه مفصَّلًا.
          قوله: (وَلَا يُشْهَدُ عَلَيْهِ) أي: على الأب، و(لَا يُشْهَدُ) على صيغة المجهول، قال الكَرْمَانِيُّ: هو عطف على قوله: «لَمْ يَجُزْ» وقال أيضًا: وفي بعض الروايات: / <ويُشهَد> بدون كلمة «لا» والأُولى هي المناسبة لحديث عَمرةَ، وقال ابن بَطَّالٍ: معناه: الردُّ لفعل الأب إذا فضَّل بعض بنيه، وأنَّه لا يَسَعُ الشهودَ أن يشهدوا على ذلك.
          (ص) وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم : «اعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ فِي الْعَطِيَّةِ».
          (ش) هذا التعليق يأتي موصولًا في الباب الثاني في حديث النعمان بن بشير ☺ بدون قوله: في العطيَّة، وروى الطَّحَاويُّ قال: حدَّثنا ابن أبي داود قال: حدَّثنا آدم قال: حدَّثنا ورقاء عن المغيرة عن الشعبيِّ قال: سمعت النعمان على منبرنا هذا يقول: قال رسول الله صلعم : «سوُّوا بين أولادكم في العطيَّة كما تحبُّون أن تُسوُّوا بينكم في البر».
          (ص) وَهَلْ لِلْوَالِدِ أَنْ يَرْجِعَ فِي عَطِيَّتِهِ وَمَا يَأْكُلُ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَتَعَدَّى؟
          (ش) هذا الذي ذكره مسألتان:
          الأولى: أنَّ الأب إذا وهب لابنه؛ هل له أن يرجعَ؟ [فيه خلاف؛ فعند طاووس وعِكرمة والشَّافِعِيِّ وأحمد وإسحاق: ليس للواهب أن يرجع] فيما وَهَب إلَّا الذي ينحُله الأب لابنه، وغير الأب مِن الأصول كالأبِ عند الشَّافِعِيِّ في الأصحِّ، وفي «التوضيح»: لا رجوعَ في الهبة إلَّا للأصول، أبًا كان أو أَمَّا أو جدًّا، وليس لغير الأب الرجوعُ عند مالكٍ وأكثر أهل المدينة، إلَّا أنَّ عندهم أنَّ الأمَّ لها الرجوعُ أيضًا مِمَّا وهبت لولدها إذا كان أبوه حيًّا، هذا هو الأشهر عند مالكٍ، ورُوِيَ عنه المنع، ولا يجوز عند أهل المدينة أن ترجعَ الأمُّ ما وهبت ليتيم مِن ولدها؛ كما لا يجوز الرجوع في العتق والوقف وأشباهه انتهى، وعند أصحابنا الحَنَفيَّة: لا رجوع فيما يهبه لكلِّ ذي رحم محرَّم بالنسب؛ كالابن والأخ والأخت والعمِّ والعمَّة وكلِّ مَن كان امرأةً لا يحلُّ له أن يتزوَّجها، وبه قال طاووس والحسن وأحمد وأبو ثورٍ.
          المسألة الثانية: أكلُ الوالد مِن مال الولد بالمعروف يجوز، وروى الحاكمُ مرفوعًا مِن حديث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أبيه عن جدِّه: «إنَّ أطيب ما أكل الرجل مِن كسبه، وأنَّ ولده مِن كسبه، فكلوا مِن مال أولادكم»، وخرَّجه التِّرْمِذيُّ أيضًا مِن حديث عائشة ♦ وقال: حديثٌ حسن، وعند أبي حنيفة: يجوز للأب الفقير أن يبيع عَرَضَ ابنه الغائب لأجل النفقة؛ لأنَّ له تملُّك مالِ الابن عند الحاجة، ولا يصحُّ بيع عقارِه لأجل النفقة، وقال أبو يوسف ومُحَمَّد: لا يجوز فيهما، وأجمعوا أنَّ الأمَّ لا تبيعُ مالَ ولده الصغير والكبير، كذا في «شرح الطَّحَاويِّ».
          (ص) وَاشْتَرَى النَّبِيُّ صلعم مِنْ عُمَرَ ☺ بَعِيرًا، ثُمَّ أَعْطَاهُ ابْنَ عُمَرَ وَقَالَ: «اصْنَعْ بِهِ مَا شِئْتَ».
          (ش) هذا قطعة مِن حديثٍ مضى في (كتاب البيوع) في (بابٌ إذا اشترى شيئًا فوهب مِن ساعته) فراجع إليه تقفْ عليه، وقال ابن بَطَّالٍ: مناسبةُ حديثِ ابن عمر للترجمة أنَّهُ صلعم لو سألَ عمر ☺ أن يَهبَ البعير لابنه عبد الله؛ لبادر إلى ذلك، ولكنَّه لو فعل لم يكن عدلًا بين بِني عُمر؛ فلذلك اشتراه النَّبِيُّ صلعم مِن عُمر ثُمَّ وهبه لعبد الله انتهى، وهذا يدلُّ على ما بوَّب له البُخَاريُّ مِنَ التسوية بين الأبناء في الهبة.
          واختلف الفقهاء في معنى التسوية؛ هل هو على الوجوب أو على الندب؟ فأَمَّا مالكٌ والليث والثَّوْريُّ والشَّافِعِيُّ وأبو حنيفة وأصحابه؛ فأجازوا أن يخصَّ بعض بنيه دون بعضِ بالنحلة والعطيَّة، على كراهية مِن بعضهم، والتسوية أحبُّ إلى جميعهم، وقال الشَّافِعِيُّ: ترك التفضيل في عطيَّة الأبناء فيه حُسْن الأدب، ويجوز له ذلك في الحكم، وكره الثَّوْريُّ وابن المبارك وأحمد أن يفضِّل بعض ولده على بعضٍ في العطايا، وكان إسحاق يقول مثل هذا، ثُمَّ رجع إلى مثلِ قول الشَّافِعِيِّ، وقال المُهَلَّب: وفي الحديث دلالةٌ على أنَّهُ لا يَلزم المعدلة فيما يهبه غير الأب لولد غيره.