عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب: هل تكسر الدنان التي فيها الخمر أو تخرق الزقاق
  
              

          ░32▒ (ص) بابَ هَلْ تُكْسَرُ الدِّنَانُ الَّتِي فِيهَا الْخَمْرُ أَوْ تُخْرَقُ الزِّقَاقُ، فإنْ كَسَرَ صَنَمًا أوْ صَلِيبًا أوْ طُنْبُورًا أوْ ما لا يُنْتَفَعُ بِخَشَبِهِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ يُذكَرُ فيه: هل تُكسَر الدِّنان التي فيها الخمر؟
          و(الدِّنَانُ) بكسر الدال، جمع (الدَّنِّ) بفتح الدال وتشديد النون، قال الكَرْمَانِيُّ: وهو الحُبُّ.
          قُلْت: هذا تفسير الشيء بما هو أخفى منه، وقال الجَوْهَريُّ: و«الحُبُّ» الخابية، فارسيٌّ معرَّب.
          قُلْت: هو في اللُّغة الفارسيَّة (خُمٌّ) بِضَمِّ الخاء المُعْجَمة وتشديد الميم، فعُرِّب وقيل: حُبٌّ؛ بِضَمِّ الحاء المُهْمَلة وتشديد الباء المُوَحَّدة، وفي «دستور اللغة» في (باب الحاء المضمومة) : «الحُبُّ» خُمْ ودُسْتِيٌّ.
          قوله: (الَّتِي فِيهَا الْخَمْرُ) جملةٌ في محلِّ الرفع؛ لأنَّها صفة (الدِّنان) وجواب (هل) محذوفٌ وإِنَّما لم يذكره؛ لأنَّ فيه خلافًا وتفصيلًا، بيانه: أنَّ قوله: (هَلْ تُكْسَرُ الدِّنَانُ الَّتِي فِيهَا الْخَمْرُ؟) أعمُّ مِن أن يكون لمسلمٍ أو لذميٍّ أو لحربيٍّ، فإن كان الدنُّ لمسلمٍ ففيه الخلاف؛ فعند أبي يوسف وأحمد في رواية: لا يضمن، ويستدلُّ لهما في ذلك بما رواه التِّرْمِذيُّ: حدَّثنا حُمَيد بن مَسعَدة: حدَّثنا المُعْتَمِر بن سليمان قال: سمعتُ ليثًا يحدِّث عن يحيى بن عَبَّاد، عن أنسٍ، عن أبي طلحة أنَّهُ قال: يَا نَبِيَّ اللهِ؛ إِنِّي اشْتَرَيْتُ خَمْرًا لأَيْتَامٍ فِي حِجْرِي؟ قَالَ: «أَهْرِقِ الْخَمْرَ وَكَسِّرِ الدِّنَانَ»، ثُمَّ قال التِّرْمِذيُّ: روى الثَّوْريُّ هذا الحديث عَنِ السُّدِّيِّ، عن يحيى بن عَبَّاد عن أنسٍ: أنَّ أبا طلحة كان عنده، وهذا أصحُّ مِن حديث الليث، وقال مُحَمَّد بن الحسن: يضمَن، وبه قال أحمد في رواية؛ لأنَّ الإراقة بدون الكسر ممكِنة.
          وأجيب عَنِ الحديث: بأنَّه ضعيفٌ، ضعَّفه ابن العربيِّ، وقال: لا يصحُّ، لا مِن حديث أبي طلحة ولا مِن حديث أنسٍ أيضًا؛ لتفرُّد السُّدِّيِّ به، وفيه الليث بن أبي سُليم، وفيه مقالٌ، وقال شيخُنا: ما قاله ابن العربيِّ مردودٌ، فالسُّدِّيُّ هو الكبير، واسمه إسماعيل بن عبد الرَّحْمَن، وثَّقه يحيى بن سعيدٍ القَطَّان، وأحمد، والنَّسائيُّ، وابن عَدِيٍّ، واحتجَّ به مسلم.
          قُلْت: قول التِّرْمِذيِّ: (هذا أصحُّ مِن حديث الليث) يدلُّ على أنَّ حديث الليث أيضًا صحيحٌ، ولكنَّ حديث السُّدِّيِّ أصحُّ، والظاهر أنَّهُ لم يصرِّح بصحَّته لأجل الليث، واسم أبي طلحة: زيد بن سهل الأنصاريُّ.
          وقالت جمهورُ العلماء منهم الشَّافِعِيُّ: إنَّ الأمر بكسر الدِّنان محمولٌ على الندب، وقيل: لأنَّها لا تعود تصلح لغيره؛ لغلبة رائحة الخمر وطعمها، والظاهر أنَّهُ أراد بذلك الزجر، قال شيخنا ☼: يحتمل أنَّهم لو سألوه أن يُبقوها ويغسلوها لرخَّص لهم، وإن كان الدِّنُّ لذمِّيٍّ فعندنا: يضمن بلا خلافٍ بين أصحابنا؛ لأنَّه مالٌ متقوِّم في حقِّهم، وعند الشَّافِعِيِّ وأحمد: لا يضمن؛ لأنَّه غير متقوِّم في حقِّ المسلم، فكذا في حقِّ الذمِّيِّ، وإن كان الدِّنُّ لحربيٍّ؛ فلا يضمن بلا خلافٍ إلَّا إذا كان مستأمنًا.
          قوله: (أَوْ تُخَرَّقُ) بالخاء المُعْجَمة على صيغة المجهول، عطف على قوله: (هَلْ تُكْسَرُ الدِّنَانُ؟).
          و(الزِّقَاقُ) بكسر الزاي، جمع (زِقٍّ) جمع الكثرة، وجمع القلَّة: (أزقاق).
          وفيه أيضًا الخلافُ المذكور، فإنَّ كان شقَّ زقَّ الخمر لمسلمٍ؛ يضمن عند مُحَمَّد وأحمد في رواية، وعند أبي يوسف: لا يضمن؛ لأنَّه مِن جملة الأمر بالمعروف، وقال مالكٌ: / زقُّ الخمر لا يطهِّره الماء؛ لأنَّ الخمر غاص في داخله، وقال غيره: يُطهِّره، ويبنى على هذا الضمان وعدمه، والفتوى على قول أبي يوسف، خصوصًا في هذا الزمان، وقد روى أحمد مِن حديث ابن عمر ☻ قال: أَخَذَ النَّبِيُّ صلعم شَّفْرَة وَخَرَجَ إِلَى السْوَقِ، وَبِهَا زُقَاقُ خَمْرٍ جُلِبَتْ مِنَ الشَّامِ، فَشُقَّ بِهَا ما كَانَ مِنْ تِلْكَ الزِّقَاقِ.
          قوله: (فَإِنْ كَسَرَ صَنَمًا) وفي بعض النُّسَخ: <وإن كسر> بالواو، وفي بعضها: <وإذا كسر> وعلى كلِّ تقديرٍ جوابُ الشرط محذوفٌ؛ تقديره: هل يجوز ذلك أم لا؟ أو هل يضمن أم لا؟ وإِنَّما لم يصرِّح بذكر الجواب لمكان الخلاف فيه أيضًا، فقال أصحابنا: إذا أتلف على نصرانيٍّ صليبًا فَإِنَّهُ يضمن قيمته صليبًا؛ يعني: حال كونه صليبًا، لا حال كونه صالحًا لغيره؛ لأنَّ النصرانيَّ مقرٌّ على ذلك، فصار كالخمر التي هم مقرُّون عليها، وقال أحمد: لا يضمن، وقال الشَّافِعِيُّ: إن كان بعد الكسر يصلح لنفعٍ مباحٍ لا يضمن، وإلَّا لزمه ما بين قيمته قبل الكسر وقيمته بعده؛ لأنَّه أتلف ما له قيمة، وقال ابن الأثير: الصنم ما يُتَّخذ إلهًا مِن دون الله، وقيل: ما كان له جسمٌ أو صورة، وإن لم يكن له جِسم ولا صورة فهو وثنٌ، وقال في (باب الواو) : «الوَثَن» كلُّ ما له جثَّة معمولة مِن جواهر الأرض، أو مِنَ الخشب والحجارة كصورة الآدميِّ يُعمل ويُنصب ويعبد، و«الصنم» الصورة بلا جُثَّة، ومنهم مَن لم يَفرِّق بينهما، وأطلقهما على المعنَيَين، وقد يُطلَق (الوثن) على غير الصورة.
          قوله: (أَوْ طُنْبُورًا) بِضَمِّ الطاء وقد تفتح، والضمُّ أشهر، وهو آلة مشهورة مِن آلات الملاهي، وهو فارسيٌّ معرَّب.
          قوله: (أَوْ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِخَشَبِهِ) قال الكَرْمَانِيُّ: يعني: أو كسر شيئًا لا يجوز الانتفاع بخشبه قبل الكسر، كآلات الملاهي المتَّخذة مِنَ الخشب، فهو تعميمٌ بعد تخصيص، ويحتمل أن يكون (أو) بمعنى (إلى أن) يعني: فإنَّ كسر طنبورًا إلى حدٍّ لا ينتفع بخشبه، ولا ينفع بعد الكسر، أو عطفٌ على مقدَّر، وهو كسرًا يُنتفع بخشبه؛ أي: كَسرَ كسرًا يُنتفع بخشبه ولا يُنتفع بعد الكسر انتهى.
          وقال بعضهم: ولا يخفى تكلُّف هذا الأخير وبُعد الذي قبله انتهى.
          قُلْت: الكَرْمَانِيُّ جعل لكلمة (أَوْ) هنا ثلاثة معانٍ؛ منها: أن يكون للعطف على ما قبله، فيكون مِن باب عطف العامِّ على الخاصِّ، ومنها: أن يكون بمعنى (إلى أن) كما في قولك: لألزمنَّك أو تقضيني حقِّي، وينتصب المضارع بعدها، وهو كثيرٌ في كلام العرب، ولا بُعد فيه، ومنها: أن يكون معطوفًا على شيءٍ مقدَّر، وهذا أيضًا بابٌ واسعٌ، فلا تكلُّف فيه، وإِنَّما يكون التكلُّف في موضعٍ يؤتى بالكلام بالجرِّ الثقيل.
          والكلام في هذا الفصل أيضًا على الخلاف والتفصيل؛ فقال أصحابنا: من كسر لمسلمٍ طنبورًا أو بَرْبطًا أو طبلًا أو مزمارًا أو دفًّا فهو ضامن، وبيع هذه الأشياء جائزٌ عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومُحَمَّدٌ والشَّافِعِيُّ ومالك وأحمد: لا يضمن، ولا يجوز بيعها، وقال أصحاب الشَّافِعِيِّ عنه بالتفصيل: إن كان بعد الكسر يصلح لنفعٍ مباح؛ يضمن، وإلَّا فلا، وعن بعض أصحابنا: الاختلاف في الدفِّ والطبل الذي يضرب للَّهو، وأَمَّا طبل الغزاة والدفِّ الذي يباح ضربه في العرس؛ فيضمن بالاتِّفاق، وفي «الذخيرة» للحَنَفيَّة: قال أبو الليث: ضرب الدُّفِّ في العرس مختلف فيه؛ فقيل: يكره، وقيل: لا، وأَمَّا الدفُّ الذي يضرب في زماننا مع الصنجات والجُلاجلات؛ فمكروهٍ بلا خلاف.
          (ص) وأُتِيَ شُرَيْحٌ في طَنْبُورٍ كُسِرَ، فَلَمْ يَقْضِ فِيهِ بِشَيْءٍ.
          (ش) (شُرَيْحٌ) هو ابن الحارث الكنديُّ، أدرك النَّبِيَّ صلعم ولم يلقه، استقضاه عُمَر بن الخَطَّاب ☺ على الكوفة، وأقرَّه عليُّ بن أبي طالبٍ ☺ ، وأقام على القضاء بها ستِّين سنة، وقضى بالبصرة سنة، ومات سنة ثمانٍ وسبعين وكان له عشرون ومئة سنة.
          قوله: (وأُتِيَ شُرَيْحٌ في طَنْبُورٍ) يعني: أتى إليه اثنان ادَّعى أحدهما على الآخر أنَّهُ كسر طنبوره، (فَلَمْ يَقْضِ فِيهِ بِشَيْءٍ) أي: لم يحكم فيه بغرامة.
          وهذا التعليق وصله ابن أبي شَيْبَةَ مِن طريق أبي حَصين _بفتح الحاء_ بلفظ: أنَّ رجلًا كسر طنبورَ رجلٍ [فرفع / إلى شُريح، فلم يضمِّنه شيئًا، وذكره وكيع بن الجرَّاح عن سفيان عن أبي حَصين: أنَّ رجلًا كسر طنبور رجل] فحاجَّه إلى شريح فلم يضمِّنه شيئًا، وهذا يوضح أنَّ جواب الترجمة عدم الضمان، وقال ابن التين: قضى شريحٌ في الطنبور الصحيح يُكَسَّر: بأن يُدفع لمالكه فينتفع به، وقال المُهَلَّب: وما كُسِّر مِن آلات الباطل، وكان فيها بعد كسرها منفعة؛ فصاحبُها أَولى بها مكسورة، إلَّا أن يرى الإمام حرقها بالنار، على معنى التشديد والعقوبة على وجه الاجتهاد؛ كما أحرق عمرُ ☺ دارَ رُوَيشِد على بيعِ الخمر، وقد هَمَّ الشارعُ بتحريق دورِ مَن يتخلَّف عَن صلاة الجماعة، وهذا أصلٌ في العقوبة في المال إذا رأى ذلك، قيل: هذا كان في الصدر الأَوَّل، ثُمَّ نُسِخَ.