عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {وهو ألد الخصام}
  
              

          ░15▒ (ص) بابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}.
          (ش) أي: هذا بابُ ما جاء في الحديث ما يوافق لفظ القرآن، ومعناه في قولِهِ تعالى: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}[البقرة:204] وتمام هذا هو قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}، وقال السُّدِّيُّ: هذه الآية وثلاثُ آياتٍ بعدها نزلت في الأخنس بن شَرِيق الثَّقَفيِّ، جاء إلى رسول الله صلعم ، وأظهر الإسلام وفي باطنه خلاف ذلك، وعن ابن عَبَّاسٍ: أنَّها نزلت في نفرٍ مِنَ المنافقين تكلَّموا في خُبَيْب وأصحابه الذين قُتِلوا بالرَّجيع وعابوهم، فأنزل الله ذمَّ المنافقين، ومدح خبيبًا وأصحابه، وقيل: بل ذلك عامٌّ في المنافقين كلِّهم، وهذا قول قتادة ومجاهد والربيع بن أنس وغير واحدٍ، وهو الصحيح، وقال ابن جَرير: حدَّثني يونس: أخبرنا ابن وَهْب: أخبرني الليث بن سعد عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن القُرَظِيِّ، عن نَوْفٍ _وهو البِكاليُّ، وكان ممَّن يقرأ الكتب_ قال: إنِّي لأجد صِفَة نَاسٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّة فِي كِتَاب اللَّه الْمُنَزَّل؛ قَوْمٌ يَحْتَالُونَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ، أَلْسِنَتُهمْ أَحْلَى مِن الْعَسَل، وَقُلُوبهمْ أَمَرُّ مِن الصَّبْر، يَلْبَسُونَ لِبَاس مُسُوك الضَّأْن، وَقُلُوبُهمْ قُلُوبُ الذِّئَاب، [يقول الله تعالى]: فَعَلَيَّ تَجْرَؤونَ؟! وَبِي تَغْتَرُّونَ؟! حَلَفْتُ بِنَفْسِي لَأَبْعَثَن عَلَيْهِمْ فِتْنَةً تَتْرُك الْحَلِيم فِيهِا حَيْرَان!» قال القُرَظِيُّ: تَدَبَّرْتهَا فِي الْقُرْآن؛ فَإِذَا هُم الْمُنَافِقُونَ.
          قوله: {وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ}؛ أي: يظهر للناس الإسلام ويبارز الله بما في قلبه مِنَ الكفر والنِّفاق، هذا ما رُوِيَ عن ابن إسحاق، عن مُحَمَّد بن أبي مُحَمَّد، عن عِكْرِمَة أو سعيد بن جُبَير، عن ابن عَبَّاسٍ، وقيل: معناه إنَّهُ إذا أظهر للناس الإسلام حلف وأشهد الله لهم أنَّ الذي في قلبه موافق للسانه، وهذا المعنى صحيحٌ.
          قوله: ({وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}) (الألدُّ) في اللغة: هو الأعوج، {وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا}[مريم:97] أي: عُوجًا، وهكذا المنافق في حال خصومته يكذب ويزوِّر / عَنِ الحق ولا يستقيم معه، بل يفتري ويفجر، ويقال: الألدُّ هو شديد الجدال، والإضافة فيه بمعنى (في) كقولهم: ثَبْتُ الغدر أو جعل الخصام ألدَّ على المبالغة، وفي «الجامع»: و«اللَّدَد» مصدر «الألدِّ»، ورجل ألدُّ؛ إذا اشتدَّ في الخصومة، والأنثى: لَدَّاء، واللَّدَد: الجِدال، أُخِذَ مِن لديدِ الوادي؛ أي: جانبه، كأنَّه إذا منع مِن جانب جاء مِن جانب آخر، وفي «تفسير عبد الرَّحْمَن» عن ابن عَبَّاسٍ: {أَلَدُّ الْخِصَامِ} أي: ذو جدالٍ إذا كلَّمك وراجعك، وعَنِ الحسن: كاذب القول، وعَن مجاهدٍ: ظالم لا يستقيم، وعن قتادة: شديد القسوة في معصية الله، جَدِل بالباطل، وقال ابن سِيدَه: لَدِدتُ لَدَدًا: صرتُ ألدَّ، ولددتُه ألدُّه؛ إذا خصمتَه، وقيل: مأخوذ مِن اللَّديدينِ؛ وهما صَفحَتا العنق، والمعنى: مِن أيِّ جانبٍ أَخَذ في الخصومة قوي، و{الْخِصَامِ} جمع (الخَصْم) كـ(صَعْب وصِعاب)، قاله الزجَّاج، وقيل: هو مصدر خاصمتُه.