عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب عفو المظلوم
  
              

          ░7▒ (ص) باب عَفْوِ الْمَظْلُومِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيانِ حُسنِ عفو المظلوم عمَّن ظلمه.
          (ص) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا}[النساء:149].
          (ش) هذا تعليلٌ لحسن عفو المظلوم.
          قوله: ({إِنْ تُبْدُوا}) أي: تُظهِروا ({خَيْرًا}) بدلًا مِنَ السُّوء ({أَوْ تُخْفُوهُ}) أي: أو أخفيتموه، أو عفوتم عمَّن أساء إليكم؛ فإنَّ ذلك مِمَّا يقرِّبكم إلى الله تعالى، ويُجزِل ثوابكم لديه، فإنَّ مِن صفاته تعالى أن يعفوَ عَن عباده مع قدرته على عقابهم؛ ولهذا قال: ({فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا}[النساء:149]) ولهذا ورد في الأثر: «أنَّ حَمَلةَ العَرش يُسبِّحون الله تعالى، فيقول بعضُهم: سُبحانك على حلمك بعد علمك! ويقول بعضهم: سبحانك على عفوك بعد قدرتك!»، وفي «الصحيح»: «ما نقص مالٌ مِن صدقةٍ، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلَّا عزًّا، ومَن تواضَعَ لله رَفَعه الله»، وروى أبو داود: مِن حديث أبي هُرَيْرَة أنَّ النَّبِيَّ صلعم قال لأبي بكرٍ ☺ : «ما مِن عبد ظُلِمَ مَظلمةً فعفا عنها إلَّا أعزَّ الله بها نصرَه»، وأخرج الطَّبَريُّ عَنِ السُّدِّيِّ في قوله: {أَوْ تَعْفُوا عَن سُوءٍ} أي: عمَّن ظلم.
          (ص) {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}[الشورى:40].
          (ش) أي: وقوله تعالى: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ} الآية[الشورى:40]، وقوله: ({وَجَزَاء سَيِّئَةٍ}...) إلى قوله: ({مِن سَبِيلٍ}) آياتٌ متناسقة مِن (سورة {حم عسق})، وروى ابن أبي حاتم: عَنِ السُّدِّيِّ في قوله: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} قال: إذا شتمك شتمتَه بمثلها مِن غير أن تعتدي، وعَنِ الحسن: رُخِّص له إذا سبَّه أحدٌ أن يسبَّه، ويقال: يريد بقوله: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} القِصاص في الجِراح المتماثلة، وإذا قال: أخزاه الله، أو لعنه الله؛ قابله بمثله، وسُمِّيت الثانية سيِّئةً لازدواج الكلام؛ ليُعلِم أنَّهُ جزاءٌ على الأولى.
          (ص) {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ. إِنَّما السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ. وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ}[الشورى:41-44]. /
          (ش) اللام في ({وَلَمَنِ انتَصَرَ}) للتأكيد؛ أي: انتقم.
          قوله: ({بَعْدِ ظُلْمِهِ}) مِن إضافة المصدر إلى المفعول.
          قوله: ({فَأُولَئِكَ}) إشارةٌ إلى معنى (مَن) دون لفظه ({مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ}) للمعاقب، والمعنى: أخذ حقَّه بعد أن ظُلِم، فأولئك ما عليهم مِن سبيل إلى لومه، وقيل: ما عليهم مِن إثمٍ، ({إِنَّما السَّبِيلُ}) باللومِ والإثم ({عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ}) يَبْتَدئون الناسَ بالظلم، ({وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ}) يتكبَّرون فيها ويقتلون ويفسدون عليهم ({بِغَيْرِ الحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}) أي: مؤلِم.
          ({وَلَمَنْ صَبَرَ}) على الظلم والأذى، ولم ينتصر، وفوَّض أمره إلى الله؛ ({إِنَّ ذَلِكَ}) الصبرَ والمغفرةَ منه ({لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}) أي: مِنَ الأمور التي نُدِب إليها، و(العزم) الإقدام على الأمر بعد الرُّؤْيَة والفكرة.
          قوله: ({وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ}) أي: ومَن يخلق الله تعالى فيه ({فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ}) وليس له مِن ناصر يتولَّاه مِن بعد إضلاله إيَّاه.
          قوله: ({وَتَرَى الظَّالِمِينَ}) أي: الكافرين لمَّا رأوا العذاب؛ أي: لِمَا يرون، فجاء بلفظ الماضي تحقيقًا {يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ} أي: هل إلى رجعة إلى الدنيا مِن حيلة، فنؤمن بك؟ وذكر هذه الآيات الكريمة؛ لأنَّها تتضمَّن عفو المظلوم وصفحه، واستحقاقه الأجر الجميل والثواب الجزيل.