عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب: {مخلقة وغير مخلقة}
  
              

          ░17▒ (ص) بَابٌ: {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ}[الحج:5].
          (ش) الكلامُ فيه على / أنواعٍ:
          الأَوَّل: في إعرابه:
          الأحسن أن يكون (بابٌ) مُنوَّنًا، ويكون خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ؛ تقديره: هذا بابٌ فيه بيانُ قولِه صلعم : «فإذا أراد أن يقضي اللهُ خلقَه، قال المَلَكُ: مُخلَّقةً، وإن لم يُرِد؛ قال: غيرَ مُخلَّقةٍ»، وروي عن عَلْقَمَةَ: «إذا وقعتِ النُّطفةُ في الرحم؛ قال له المَلَكُ: مُخَلَّقةً أو غيرَ مُخلَّقة؟ فإن قال: غيرَ مخلَّقة؛ مجَّتِ الرَّحمُ دمًا، وإن قال: مُخلَّقةً؛ قال: ذكرٌ أم أنثى؟»، ويحتمل أن يكونَ البُخَاريُّ أراد الآيةَ الكريمةَ، فأورد الحديث؛ لأنَّ فيه ذكرَ (المضغة)، والمضغة مُخلَّقةٌ وغيرُ مُخلَّقةٍ.
          وقال بعضهم: رويناه بالإضافة؛ أي: بابُ تفسيرِ قوله تعالى: {مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ}[الحج:5].
          قُلْت: ليت شعري؛ أنَّهُ روى هذا عن البُخَاريِّ نفسِه أم عن الفِرَبْرِيِّ؟ وكيف يقول: (بابُ تفسير قوله تعالى: {مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ}[الحج:5]) وليس في متن حديث الباب: مُخلَّقةٍ وغيرِ مُخلَّقةٍ، وإِنَّما فيه ذكرُ (المضغة) ؛ وهي مُخلَّقة وغيرُ مُخلَّقةٍ، كما ذكرنا.
          النَّوع الثَّاني: أنَّ غرضَ البُخَاريِّ مِن وضع هذا الباب هنا الإشارةُ إلى أنَّ الحاملَ لا تحيضُ؛ لأنَّ اشتمال الرحم على الولد يمنع خروجَ دمِ الحيض، ويقال: إنَّهُ يصير غذاءً للجنين، وممَّن ذهب إلى أنَّ الحاملَ لا تحيضُ الكوفيُّون، وإليه ذهب أبو حنيفةَ وأصحابُه وأحْمَدُ ابن حَنْبَل وأبو ثور وابن المنذر والأوزاعيُّ والثَّوْريُّ وأبو عبيدٍ وعطاءٌ والحسن البِصْريُّ وسعيدُ بن المُسَيّبِ ومُحَمَّدُ بن المُنْكَدِر وجابر بن زيد والشعبيُّ ومكحولٌ والزُّهْريُّ والحكمُ وحمَّادٌ والشَّافِعِيُّ في أحد قولَيه، وهو قوله القديم، وقال في الجديد: إِنَّها تحيض، وبه قال إسحاقُ، وعن مالكٍ روايتان، وحكي عن بعض المالكيَّة: إن كان في آخر الحمل؛ فليسَ بحيضٍ، وذكر الدَّاوديُّ أنَّ الاحتياطَ أن تصوم وتُصلِّي، ثُمَّ تقضي الصومَ، ولا يأتيها زوجُها، وقال ابن بَطَّالٍ: غرضُ البُخَاريِّ بإدخال هذا الحديثِ في أبواب الحيض تقويةُ مذهبِ مَن يقول: إنَّ الحاملَ لا تحيضُ، وقال بعضهم: وفي الاستدلال بالحديث المذكور على أنَّها لا تحيض نظرٌ؛ لأنَّه لا يلزم مِن كونِ ما يخرج مِنَ الحامل مِنَ السقط الذي لم يُصوَّرْ ألَّا يكونَ الدمُ الذي تراه المرأةُ التي يستمرُّ حملها ليسَ بحيضٍ، وما ادَّعاه المخالفُ مِن أنَّهُ رشح مِنَ الولد أو مِن فضلةِ غذائِه أو دمٍ فاسدٍ لعلَّة؛ فمحتاجٌ إلى دليلٍ؛ لأنَّ هذا دمٌ بصفاتِ دمِ الحيض، وفي زمن إمكانه؛ فله حكمُ دم الحيض، فمن ادَّعى خلافه؛ فعليه البيانُ.
          قُلْت: أنا ادَّعيتُ الخلافَ، وعليَّ البيانُ:
          أَمَّا أوَّلًا؛ فنقول: لنا في هذا الباب أحاديثُ وأخبارٌ:
          منها: حديث سالمٍ عن أبيه: وهو أنَّ ابنَ عمر طلَّق امرأتَه وهي حائضٌ، فسأل عمرُ النَّبِيَّ صلعم ، فقال: «مُرْهُ؛ فليراجعْها، ثُمَّ ليمسكْها حَتَّى تطهرَ، ثُمَّ تحيض ثُمَّ تطهر، ثُمَّ إن شاء؛ أمسكها، وإن شاء؛ طلَّقها قبل أن يمسَّ، فتلك العدَّة التي أمرَ الله تعالى أن تُطلَّق لها النساءُ»، مُتَّفق عليه.
          ومنها: حديثُ أبي سعيد الخُدْريِّ ☺ ، قال في سبايا أوطاسٍ: «لا تُوطَأ حاملٌ حَتَّى تضعَ، ولا حائلٌ حَتَّى تستبرأَ بحيضة»، رواه أبو داود.
          ومنها: حديث رُوَيفِع بن ثابتٍ قال: قال رسولُ الله صلعم : «لا يحلُّ لأحدٍ أن يسقيَ ماءهُ زرعَ غيرِه، ولا يقع على أمة حَتَّى تحيضَ أو يتبيَّن حملها»، رواه أحمد، فجعل صلعم وجودَ الحيضِ عَلَمًا على براءةِ الرَّحمِ مِنَ الحَبَلِ في الحديثين، ولو جاز اجتماعُهما؛ لم يكن دليلًا على انتفائه، ولو كان بعد الاستبراء بحيضة احتمالُ الحمل؛ لم يحلَّ وَطْؤُها؛ للاحتياط في أمر الأَبْضَاع.
          وأَمَّا الأخبار:
          فمنها: [ما رُوِي عن عليٍّ ☺ أنَّهُ قال: إنَّ الله رفع الحيض عن الحُبْلى، وجعل الدمَ رزقًا للولد مِمَّا تَغيضُ الأرحامُ، رواه أبو حفصٍ ابن شاهين.
          ومنها]
: ما روي عن ابن عَبَّاس ☻ قال: إنَّ الله رفع الحيض عن الحُبْلى، وجعل الدمَ رزقًا للولد، رواه ابنُ شاهين أيضًا.
          ومنها: ما رواه الأثرم والدَّارَقُطْنيُّ بإسنادهما / عن عائشةَ في الحامل ترى الدَّم، فقالت: (الحُبْلى لا تحيض، وتغتسلُ وتُصلِّي)، وقولها: (تغتسل) استحبابٌ؛ لكونها مُستحاضَةً، ولا يُعرَف عن غيرهم خلافُه، ثُمَّ قال هذا القائل: واستدلَّ ابن التِّين على أنَّهُ ليس بدم حيضٍ؛ بأنَّ المَلَكَ مُوكَّلٌ برحم الحامل، والملائكةُ لا تدخل بيتًا فيه قَذَرٌ. وأجيب: بأنَّه لا يلزمُ مِن كون المَلَكِ مُوكَّلًا به أن يكونَ حالًّا فيه، ثُمَّ هو مُشترِك الإلزام؛ لأنَّ الدم كلَّه قَذَرٌ.
          [قُلْت: ولا يلزمُ أيضًا أَن لا يكونَ حالًّا فيه، والدم في معدنِه لا يوصفُ بالنَّجاسة، وإلَّا؛ يلزم ألَّا يوجدَ أحدٌ طاهرًا خاليًا عنِ النَّجاسة].
          النوع الثالث: في معنى (المُخَلَّقَةِ) :
          وعن قتادة: {مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ}[الحج:5] أي: تامَّةٍ أو غيرِ تامَّةٍ، وعن الشَّعبيِّ: «النطفة» و«العلقة» و«المضغة» إذا كُسِيتْ في الخلق الرَّابع؛ كانت مُخلَّقةً، وإذا قذفتْهَا قبل ذلك؛ كانت غيرَ مُخلَّقةٍ، وعن أبي العالية: «المُخلَّقَة»: المُصوَّرة، و«غير المُخلَّقة»: السَّقط، وقال الجَوْهَريُّ: مضغة مُخلَّقة؛ أي: تامَّة الخلق، وقال الزَّمَخْشَريُّ: {مُخَلَّقةٍ} أي: مُسوَّاة مَلْسَاءَ مِنَ النُّقصان والعيب، يقال: خلقَ السِّواك؛ إذا سوَّاه وملسه، و{غَيرِ مُخَلَّقَةٍ} أي: غيرِ مُسوَّاةٍ.
          النَّوع الرَّابع: في وجه المناسبة بين هذا البابِ والبابِ الذي قبلَه:
          مِن حيث إنَّ البابَ الذي قبله يشتملُ على أمورٍ مِن أحكام الحيض، وهذا الباب أيضًا يشتملُ على حكمٍ مِن أحكام الحيض؛ وهو أنَّ الحامل إذا رأت دمًا؛ هل يكون حيضًا أم لا؟ وقد ذكرنا أنَّ غرض البُخَاريِّ مِن وضع هذا الباب هو الإشارةُ إلى أنَّ الحاملَ لا تحيضُ، ونذكر كيفيَّة ذلك إن شاء الله.