عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب كيف كان بدء الحيض
  
              

          ░1▒ (ص) بَابٌ: كَيْفَ كَانَ بُدُوُّ الحَيْضِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ، فارتفاعه على أنَّهُ خبرُ مبتدأ محذوف، ويجوز فيه التنوينُ بالقطع عمَّا بعده، وتركه؛ للإضافة إلى ما بعده، و(الباب) أصله: البوب، قُلِبت الواوُ ألفًا؛ لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها، ويجمع على أبواب وأبوِبة، والمراد مِن (الباب) هنا النَّوعُ؛ كما في قولهم: (مَن فتح بابًا من العلم) أي: نوعًا، وكلمة: (كَيْفَ) اسمٌ لدخول الجارِّ عليه بلا تأويل في قولهم: على كيف تبيع الأحمرين؟
          فَإِنْ قُلْتَ: ما محلُّ (كيف) من الإعراب؟ قُلْت: يجوز أن يكون حالًا؛ كما في قولك: (كيف جاء زيد) أي: على أيِّ حالة جاء زيد؟ والتقدير ههنا: [على أيِّ حالة كان ابتداء الحيض؟
          ولفظة (كَانَ) مِنَ الأفعال الناقصة تدلُّ على الزمان الماضي]
مِن غير تعرُّض لزواله في الحال أو لا زواله، وبهذا يفرق عن (صار)، فإنَّ معناه الانتقالُ مِن حالٍ إلى حالٍ؛ ولهذا لا يجوز أن يقال: صارَ الله، ولا يقال: ألا كان الله.
          قوله: (بُدُوُّ الحَيْضِ) مَن بدا يبدو بُدُوًّا؛ أي: ظهر، و(البَدْءُ) بالهمز في آخره على (فَعْلٍ) بسكون العين، مِن بدأتُ الشيءَ بَدْءًا: ابتدأتُ به.
          (ص) وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلعم : «هَذَا شَيْءٌ كَتَبَهُ اللهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ».
          (ش) هذا مِن تعليقات البُخَاريِّ، والآن يذكره موصولًا عقيب هذا، وسيذكره أيضًا في الباب السَّادس من جملة حديث، وقال بعضهم: (وقول النَّبِيِّ / صلعم : «هَذَا شَيْءٌ») يشيرُ إلى حديث عائشةَ المذكور عقيبه.
          قُلْت: هذا الكلام غيرُ صحيحٍ، بل قوله: «هذا شيءٌ» يشير به إلى الحيض، فكذلك لفظ: (شيء) في الحديث الذي [سيأتي في الباب السادس، ولكنَّه بلفظ: «فإنَّ ذلك شيءٌ كتبه الله على بنات آدم»، [وفي الحديث] الذي عقيبه: «إنَّ هذا أمرٌ كتبَه الله على بناتِ آدم»]، وعلى كلِّ تقدير: الإشارة [إلى الحيض، وقد استدركه هذا القائل في آخر كلامه بقوله: والإشارة] بقوله: (هذا) إلى الحيض.
          (ص) وَقَالَ بَعْضُهُم: كَانَ أَوَّلُ مَا أُرْسِلَ الحَيْضُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ.
          (ش) هذا قولُ عبد الله بن مسعود وعائشةَ ☻.
          أخرجه عبد الرَّزَّاق عنهما، ولفظه: (كان الرِّجال والنساء في بني إسرائيلَ يصلُّون جميعًا، وكانت المرأة تتشرَّف للرَّجل، فألقى الله عليهنَّ الحيض، ومنعهنَّ المساجد).
          فَإِنْ قُلْتَ: الحيضُ أُرسِل على بنات بني إسرائيل على هذا القول، ولم يرسل على بنيه، فكيف قال: على بني إسرائيل؟
          قُلْت: قال الكَرْمَانِيُّ: يُستعمَل بنو إسرائيل، ويُرادُ به [أولاده؛ كما يرادُ مِن بني آدمَ أولادُه، أو المرادُ به القبيلةُ.
          قُلْت: هذا مِن حيث اللُّغةُ يمشي، ومن حيثُ العرفُ لا يُذكَرُ الابن، ويُراد به]
الولدُ، حَتَّى لو أوصى بثُلُث ماله لابن زيدٍ وله ابنٌ وبنتٌ لا تدخل البنتُ فيه، ودخول (البنات) في بني آدمَ بطريق التَّبعيَّة.
          وقوله: (أو المرادُ به القبيلةُ) ليس له وجهٌ أصلًا؛ لأنَّ (القبيلة) تجمعُ الكلَّ، فيدخل فيه الرِّجال أيضًا.
          وقد عُلِم أنَّ طبقاتِ العربِ ستٌّ، فالقبائل تجمعُ الكلَّ، ويمكن أن يقال: إنَّ المضاف فيه محذوفٌ؛ تقديره: على بنات بني إسرائيل، يشهد بذلك قولُه صلعم : «كتبه الله على بنات آدم»، ونذكر التَّوفيق بينهما عن قريب إن شاء الله تعالى.
          فَإِنْ قُلْتَ: ما محلُّ قوله: (على بني إسرائيل) من الإعراب؟ قُلْت: النَّصب؛ لأنَّها جملةٌ وقعت خبرًا لـ(كان).
          وقوله: (أَوَّلُ) مرفوع؛ لأنَّه اسمه، وكلمة (مَا) مصدريَّة؛ تقديره: كان أَوَّلُ إرسالِ الحيضِ على بني إسرائيل.
          (ص) قالَ أبُو عبْدِ اللهِ: وَحَدِيثُ النَّبِيِّ صلعم أَكْثَرُ.
          (ش) (أبُو عبْدِ اللهِ) هو البُخَاريُّ نفسُهُ، وكأنَّه أشار بهذا الكلام إلى وجه التَّوفيق بين الخبرَين؛ وهو أنَّ كلامَ الرسول صلعم أكثرُ قوَّةً وقبولًا مِن كلام غيره من الصحابة.
          وقال الكَرْمَانِيُّ: ويروى: <أكبر> بالباء المُوَحَّدة، ومعناه على هذا: وحديثُ النَّبِيِّ صلعم أعظمُ وأجلُّ وآكدُ ثبوتًا، وفسَّر الكَرْمَانِيُّ (الأكثر) بالثَّاء المُثَلَّثة: [أي: أشمل؛ [لأنَّه يتناول بناتِ إسرائيل وغيرَهنَّ، وقال بعضهم: «أكثر» أي: أشمل]؛ لأنَّه عامٌّ في جميع بنات آدمَ، فيتناول الإسرائيليَّاتِ ومَن قبلهنَّ.
          قُلْتُ: لمَ لا يجوز أن يكون الشمولُ في بنات إسرائيل ومَن بعدهنَّ؟]
.
          وقال الداوديُّ: ليس بينهما مخالفةٌ؛ فإنَّ نساءَ بني إسرائيل مِن بناتِ آدمَ، وقال بعضهم: فعلى هذا فقوله: بنات آدم عامٌّ أريد به الخصوص.
          قُلْت: ما أبعدَ كلامَ الداوديِّ في التوفيق بينهما! نعم؛ نحن ما ننكرُ أنَّ نساء بني إسرائيل من بنات آدم، ولكنَّ الكلام في لفظ الأوَّليَّة فيهما، ولا تنتفي المخالفة إلَّا بالتوفيق بين لفظَي الأوَّليَّة، وأبعدُ مِن هذا قولُ القائل: [عامٌّ أُريد به الخصوص، فكيف يجوز تخصيصُ عموم كلام النَّبِيِّ صلعم بكلام غيره؟!
          ثُمَّ قال هذا القائل]
: ويمكن أن يُجمَعَ بينهما بأنَّ الذي أُرسِل على نساء بني إسرائيلَ طولُ مكثه بهنَّ؛ عقوبةً لهنَّ، لا ابتداء وجوده.
          قُلْت: هذا كلامُ مَن لا يذوقُ المعنى، وكيف يقول: (لا ابتداء وجودِه) والخبرُ فيه أَوَّل ما أرسل؟! وبينه وبين كلامه منافاةٌ، وأيضًا
          في أينَ ورد أنَّ الحيضَ طال مكثه في نساء بني إسرائيل؟ ومَن نقل هذا؟ وقد روى الحاكمُ بإسنادٍ صحيحٍ عن ابن عَبَّاس ☻ / : أنَّ ابتداء الحيض كان على حوَّاء ♀بعد أن أُهبِطت مِنَ الجنَّة، وكذا رواه ابن المنذر، وقد روى الطَّبَريُّ وغيرُه عن ابن عَبَّاس وغيرِه أنَّ قوله تعالى في قصَّة إبراهيم ◙ : {وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ}[هود:71] أي: حاضت، والقصَّة مُتقدِّمة على بني إسرائيلَ بلا ريبٍ؛ لأنَّ إسرائيلَ هو يعقوبُ بنُ إسحاقَ بنِ إبراهيمَ ‰ .
          قُلْت: ولقد حضر لي جوابٌ في التوفيق مِنَ الأنوار الإلهيَّة بعونه ولطفه، وهو أنَّهُ يمكن أنَّ الله تعالى [قطع حيض بني إسرائيل عقوبةً لهنَّ ولأزواجهنَّ؛ لكثرة عنادهم، ومضت على ذلك مدَّةٌ، ثُمَّ إنَّ الله تعالى رحمهم وأعاد حيضَ نسائهم؛ لأنَّ مِن حكم الله تعالى] أنَّهُ جعل الحيض سببًا لوجود النَّسل، ألا ترى أنَّ المرأة إذا ارتفع حيضُها لا تحمل عادةً؟ فلمَّا أعاده عليهنَّ؛ كان ذلك أَوَّلَ الحيض بالنسبة إلى مدَّة الانقطاع، فأطلق الأوليَّة عليه بهذا الاعتبار؛ لأنَّها مِنَ الأمور النسبيَّة؛ فافهمْ.