عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب من سمى النفاس حيضا
  
              

          ░4▒ (ص) بَابُ مَنْ سَمَّى النِّفَاسَ حَيْضًا.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان مَن سمَّى النِّفاسَ حيضًا، كان ينبغي أن يقول: بابُ مَن سمَّى الحيضَ نفاسًا؛ لأنَّ في حديث الباب: (فقال: أنفُسْتِ؟) أي: أحضت؟ أطلق على الحيضِ (النِّفاسَ)، وقال ابن بَطَّالٍ: لمَّا لم يجدِ البُخَاريُّ للنَّبيِّ صلعم نصًّا في النِّفاس وحكمِ دمها في المدَّة المختلفة، وسمَّى الحيضَ نفاسًا في هذا الحديث؛ فُهِمَ منه أنَّ حكمَ دمِ النِّفاسِ حكمُ دمِ الحيضِ في ترك الصَّلاة؛ لأنَّه إذا كان الحيضُ نفاسًا؛ وجب أن يكون النفاس حيضًا؛ لاشتراكهما في التسمية من جهة اللُّغة؛ لأنَّ الدمَ هو النَّفْسُ، ولزم الحكمُ لِما لم يُنصَّ عليه مِمَّا نُصَّ، وحُكِمَ للنِّفاس بتركِ الصَّلاة ما دام دمُها موجودًا، وقال الخَطَّابيُّ: ترجم أبو عبد الله بقوله: «من سمَّى النفاس حيضًا»، والذي ظنَّه مِن ذلك وَهَمٌ، وأصل هذه الكلمة مأخوذٌ من النَّفْس؛ وهو الدَّمُ، إلَّا أنَّهم فرَّقوا فقالوا: نَفَستْ بفتح النون؛ إذا حاضت، وبضمِّ النون؛ إذا ولدت، وقال الكَرْمَانِيُّ: ليس الذي ظنَّه وَهَمًا؛ لأنَّه إذا ثبت هذا الفرق _والرواية التي هي بالضمِّ صحيحةٌ_؛ صحَّ أن يقال / حينئذٍ: سُمِّي النِّفاسُ حيضًا، وأيضًا يحتمل أنَّ الفرق لم يثبت عنده لغةً، بل وضعت «نَفَستْ» مفتوح النون ومضمومها عنده للنِّفاس بمعنى الولادة، كما قال بعضهم بعدم الفرق أيضًا؛ بأنَّ اللَّفظين للحيض والولادة كليهما.
          وقال ابن المُنَيِّر [ما] حاصله: كيف تطابِقُ التَّرجمةُ الحديثَ وفيه تسمية الحيضِ [نفاسًا، لا تسميةُ النِّفاسِ حيضًا؟ قُلْت: للتنبيه على أنَّ حكمَ] النِّفاس والحيض في منافاة الصَّلاة ونحوها واحدٌ، وألجأه إلى ذلك أنَّهُ لم يجد حديثًا على شرطه في حكم النِّفاس، فاستنبط مِن هذا الحديث أنَّ حكمَهما واحدٌ.
          قُلْت: هذا الكلامُ في الحقيقة مضمونُ كلام ابن بَطَّالٍ، وكلامُه يُشعِر بالمساواة بينَ مفهومَي الحيض والنفاس، وليس كذلك؛ لجواز أن يكون بينهما عمومٌ وخصوصٌ مِن وجه؛ كالإنسان والحيوان.
          وقول الكَرْمَانِيِّ: (يحتمل أنَّ الفرق لم يثبت عنده لغةً...) إلى آخره غيرُ سديدٍ؛ لأنَّ هذا لا يقال عن أحد إلَّا ممَّن يكون من أئِمَّة اللُّغة، والبُخَاريُّ مِن أئِمَّة الحديث، والصواب الذي يقال ههنا على وجهين؛ أحدهما: أنَّ هذه التَّرجمةَ لا فائدةَ في ذكرها؛ لأنَّه لا يبنى عليها مزيدُ فائدة، والثاني: لو سلَّمنا أنَّ لها فائدةً؛ فوجهها أن يقال: لمَّا لم يثبت الفرق عنده بين مفهومي الحيض والنفاس؛ يجوز ذكر أحدهما وإطلاق الآخر، ففي الحديث ذُكِرَ النِّفاسُ وأريد الحيضُ، فكذلك ذكر المُصنِّف النفاسَ وأراد الحيضَ، وعلى هذا معنى قوله: (باب من سمَّى...) : باب مَن ذكر النِّفاسَ حيضًا؛ يعني: ذكرَ النِّفاس وأراد به الحيض، فكذلك المذكورُ في الحديث نفاسٌ، والمرادُ حيضٌ؛ وذلك أنَّهُ لمَّا قال صلعم لها: «أنفست؟»، أجابت: بنعم، وكانت حائضًا، فقد جعلتِ النِّفاسَ حيضًا، فطابق الحديثَ ما ترجمَ به.