عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب ميراث الجد مع الأب والإخوة
  
              

          ░9▒ (ص) بَابُ مِيرَاثِ الْجَدِّ مَعَ الَابِ وَالإِخْوَةِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان حكم ميراث الجدِّ الذي مِن قِبَل الأب مع الأب والإخوة الأشقَّاء ومِنَ الأب، وقد انعقد الإجماع على أنَّ الجدَّ لا يرث مع وجود الأب.
          (ص) وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَير ♥ : الْجَدُّ أَبٌ.
          (ش) أي: الجدُّ الصحيحُ أبٌ؛ أي: حكمه حكم الأب عند عدمه بالإجماع، والجدُّ الصحيح: هو الذي لا يدخل في نسبته إلى الميِّت أمٌّ، وقد أطلقَ على الجدِّ أبًا في قوله ╡ : {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ}[الأعراف:27] والمُخرَج مِنَ الجنَّة آدم جدنُّا الأعلى، فإذا أُطلِق على الجدِّ الأعلى أبٌ، فإطلاقه على أب الأب بطريق الَاولى، فإذا كان أبًا فله أحوالٌ ثلاثٌ: الفرض المطلق، والفرض والتعصيب، والتعصيب المحض، فهو كالأب في جميع أحواله إلَّا في أربع مسائل، فَإِنَّهُ لا يقوم مَقامَ الأب فيها؛ الأولى: أنَّ بني الأعيان والعلَّات كلَّهم يسقطون بالأب بالإجماع، ولا يسقطون بالجدِّ إلَّا عند أبي حنيفة ☺ ، الثانية: أنَّ الأمَّ مع أحد الزوجين والأبِ تأخذ ثلثَ ما يبقى، ومع الجدِّ تأخذ ثلثَ الجميع إلَّا عند أبي يوسف فإنَّ عنده الجدَّ كالأب فيه، والثالثة: أنَّ أمَّ الأب وإن علت تسقط بالأب، ولا تسقط بالجدِّ وإن علت، الرابعة: أنَّ المُعتِق إذا ترك أبًا لمُعتِق وابنه فسدس الولاء للأب والباقي للابن عند أبي يوسف، وعندهما: كلُّه للابن، ولو ترك ابن المعتِق وجدَّه؛ الولاء كلُّه للابن بالاتِّفاق.
          وهذا هو شرح كلام هؤلاء الصحابة، ولم أرَ أحدًا مِنَ الشُّرَّاح ذكر شيئًا مِن ذلك، وقال بعضهم: قوله: «الْجَدُّ أَبٌ» أي: هو أبٌ حقيقةً.
          قُلْت: لم يقل بذلك أحدٌ ممَّن يميِّز بين الحقيقة والمجاز.
          أَمَّا قول أبي بكرٍ ☺ فوصله الدارميُّ بسندٍ على شرطٍ مسلمٍ عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ: أنَّ أبا بكرٍ الصِّدِّيق جعل الجدَّ أبًا، وأَمَّا قول ابن عَبَّاس فأخرجه مُحَمَّد بن نصرٍ المَرْوَزِيُّ في كتاب «الفرائض» مِن طريق عَمْرو بن دينارٍ عن عطاءٍ عن ابن عَبَّاسٍ قال: الجدُّ أبٌ، وأَمَّا قول عبد الله بن الزُّبَير فمضى في (المناقب) موصولًا مِن طريق ابن أبي مُلَيكة قال: كتب أهلُ الكوفة إلى ابن الزُّبَير في الجدِّ، فقال: إنَّ أبا بكرٍ أنزله أبًا.
          (ص) وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {يَا بَنِي آدَمَ}[الأعراف:31] {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ}[يوسف:38] وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ أَحَدًا خَالَفَ أَبَا بَكْرٍ فِي زَمَانِهِ، وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ صلعم مُتَوَافِرُونَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاس: يَرِثُنِي ابْنُ ابْنِي دُونَ إِخْوَتِي، وَلَا أَرِثُ أَنَا ابْنَ ابْنِي.
          (ش) أشار بقوله: (وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {يَا بَنِي آدَمَ}[الأعراف:31]) إلى احتجاجه بأنَّ الجدَّ أبٌ بقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ} وبقوله تعالى أيضًا: ({وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ}) [يوسف:38] فَإِنَّهُ أطلق على هؤلاء أبًا مع أنَّهم أجدادٌ، وروى سعيد بن منصورٍ مِن طريق عطاءٍ عن ابن عَبَّاسٍ قال: الجدُّ أبٌ، وقرأ: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي} الآية[يوسف:38].
          قوله: (وَلَمْ يُذْكَرْ) على صيغة المجهول.
          قوله: (خَالَفَ أَبَا بَكْرٍ) أي: فيما قاله: إنَّ الجدَّ حكمه حكم الأب.
          قوله: (وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ صلعم ) الواو فيه للحال.
          قوله: (مُتَوَافِرُونَ) أي: فيهم كثرةٌ وعددٌ، وهو إجماعٌ سكوتيٌّ، وممَّن قال مثلَ قول ابن عَبَّاسٍ معاذٌ، وأبو الدَّرْدَاء، وأبو موسى، وأُبَيُّ بْنُ كعب، وأبو هُرَيْرَة، وعائشة، ♥ ، ومن التَّابِعينَ أيضًا: عطاءٌ، وطاووس، وشريحٌ، والشعبيُّ؛ قالوا كذلك، وقال أيضًا مِنَ الفقهاء: / عثمان البتِّيُّ، وأبو حنيفة، وإسحاق، وأبو ثورٍ، وداود، والمزنيُّ، وابن سُرَيج، وذهب عمر وعليٌّ وزيد بن ثابتٍ وابن مسعودٍ إلى توريث الإخوة مع الجدِّ، لكنِ اختلفوا في كيفيَّة ذلك، وموضعُه كتبُ الفرائض.
          قوله: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَرِثُنِي...) إلى آخره، أراد به الإنكار؛ أي: لِمَ لا يرث الجدُّ فيكون ردًّا على مَن حجب الجدَّ بالإخوة؟ أو معناه: فلِمَ لا يرث الجدُّ وحده دون الإخوة كما في العكس؟ فهو ردٌّ على مَن قال بالشركة بينهما، وقال أبو عمر: وجهُ قياسِ ابن عَبَّاسٍ: أنَّ ابن الابن لمَّا كان كالابن عند عدم الابن؛ كان أبو الأبِ عند عدم الأب كالأب.
          (ص) ويُذْكَرُ عنْ عُمَرَ وعَلِيٍّ وابنِ مَسْعُودٍ وزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ♥ أقاوِيلُ مُخْتَلِفَةٌ.
          (ش) (ويُذْكَرُ) على صيغة المجهول؛ إشارةً إلى التمريض، وقد ذكرنا الآن أنَّهم ذهبوا إلى توريث الإخوة مع الجدِّ، ولكن باختلافٍ بينهم في ذلك، وقول عمر: إنَّهُ كان يقاسم الجدَّ مع الأخ والأخوين، فإذا زادوا أعطاه الثلث، وكان يعطيه مع الولد السدس، رواه الدارميُّ مِن طريق عيسى الحنَّاط عن الشعبيِّ... فذكره، وقول عليِّ ☺ فرواه الشعبيُّ: كتب ابن عَبَّاسٍ إلى عليٍّ يسأله عن ستَّة إخوةٍ وجدٍّ، فكتب إليه: أن اجعله كأحدهم، وامحُ كتابي، وروى الحسن البَصْريُّ: أنَّ عليًّا كان يشرك الجدَّ مع الإخوة إلى السدس، وله أقوالٌ أُخَر، وقول ابن مسعودٍ رُوِيَ في امرأةٍ تركت زوجها وأمَّها وجدَّها وأخاها لأبيها: أنَّ للزوج ثلاثةَ أسهمٍ النصفَ، وللأمِّ ثلث ما بقي؛ وهو السدس مِن رأس المال، وللأخ سهمٌ، وللجدِّ سهمٌ، وقول زيد بن ثابتٍ فرواه الدارميُّ مِن طريق الحسن البَصْريِّ: كان زيدٌ يشرك الجدَّ مع الإخوة إلى الثلث، وأخرج عبد الرَّزَّاق مِن طريق إبراهيم قال: كان زيد بن ثابت يشرك الجدَّ مع الإخوة إلى الثلث، فإذا بلغ الثلث أعطاه إيَّاه، والإخوةَ ما بقي، ويقاسِم الأخَ للأب ثُمَّ يُرَدُّ على أخيه، ويقاسِم بالإخوة مِنَ الأب مع الإخوة الأشقَّاء، ولا يورث الإخوة للأب شيئًا، ولا يعطي أخًا لأمٍ مع الجدِّ شيئًا، وله أقوالٌ أخرى طوينا ذكرها طلبًا للاختصار.