عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب السحر
  
              

          ░47▒ (ص) باب السِّحْرِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيانِ السحر، وأنَّه ثابت محقَّقٌ؛ ولهذا أكثر البُخَاريُّ في الاستدلال عليه بالآياتِ الدالَّة عليه والحديث الصحيح، وأكثرُ الأمم مِنَ العرب والروم والهند والعَجَم بأنَّه ثابت، وحقيقته موجودة، وله تأثير، ولا استحالة في العقل في أنَّ الله تعالى يخرق العادةَ عند النطق بكلام ملفَّقٍ أو تركيب أجسام ونحوه، على وجه لا يعرفُه كلُّ أحدٍ.
          وأَمَّا تعريف (السِّحْر) فهو أمرٌ خارقٌ للعادة، صادرٌ عن نفسٍ شَرِّيرةٍ، لا يتعذَّر معارضته، وأنكر قومٌ حقيقتَه، وأضافوا ما يقع منه إلى خيالاتٍ باطلة لا حقيقة لها، وهو اختيار أبي جعفرٍ الإستراباذيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّة، وأبي بكر الرازيِّ مِنَ الحَنَفيَّة، وابن حزم الظاهريِّ، والصحيح قول كافَّة العلماء، يدلُّ عليه الكتاب والسنَّة.
          فَإِنْ قُلْتَ: ما وجه إيراد (باب السحر) في (كتاب الطبِّ) ؟
          قُلْت: لا شكَّ أنَّ السحرَ نوعٌ مِنَ المرض، وهو يُمرِض المسحور؛ ولهذا ذكر صلعم : «أَمَا والله لقد شَفاني» على ما يأتي عن قريبٍ في (باب هل يُستَخرَج / السِّحر؟) والشفاء يكون لمرضٍ موجود، ثُمَّ إنَّهُ جَمَع بين (باب السحر) و(باب الكهانة) لأنَّ مرجع كلٍّ منهما الشياطين، وكأنَّهما مِن وادٍ واحدٍ، ولا يقال: لِمَ قدَّم (باب الكهانة) على (باب السحر) ؟ لأنَّه سؤالٌ دوريٌّ، وهو غيرُ وارد، فافهم.
          (ص) وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}[البقرة:102] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى}[طه:69] وَقَوْلِهِ: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ}[الأنبياء:3] وَقَوْلِهِ: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أنَّها تَسْعَى}[طه:66] وَقَوْلِهِ: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ}[الفلق:4] وَالنَّفَّاثَاتُ: السَّوَاحِرُ، {تُسْحَرُونَ} تُعَمَّوْنَ.
          (ش) (وَقَوْلِ اللهِ) بالجر عطفًا على (السِّحرِ) المضاف إليه لفظةُ (باب) والتقدير: بابٌ في بيان السحر وفي بيانِ قولِ الله ╡ ، وذكر هذه الآياتِ الكريمة للاستدلال بها على تحقُّق وجودِ السحر وإثباتِه، وعلى بيان حُرمتِه.
          أَمَّا الآية الأولى؛ وهي قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} ففي رواية الأكثرين: <{وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}... الآية> فهذا المقدارُ هو المذكور، وفي رواية كريمةَ ساقها إلى قوله: {مِنْ خَلَاقٍ} ففي هذه الآية بيانُ أصل السحر الذي تَعمَل به اليهود، ثُمَّ هو مِمَّا وضعته الشياطينُ على سُلَيمان بن داود ♂ ، ومِمَّا أنزل الله تعالى على هاروت وماروت بأرض بابل، وهذا متقدِّمٌ على الأَوَّل؛ لأنَّ قصَّة هاروت وماروت كانت مِن قبل زمنِ نوح ◙ ، وكان السِّحر أيضًا فاشيًا في زمن فرعون، وملخَّص ما ذكر في هذه الآية الكريمة ما قاله السُّدِّيُّ في قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} أي: على عهد سليمان، قال: كانت الشياطين تصعد إلى السماء، فتقعد منها مقاعد للسمع، فيسمعون من كلام الملائكة ما يكون في الأرض من موتٍ أو غيثٍ أو أمرٍ، فيأتون الكَهَنة فيخبرونهم، فتُحَدِّث الكهنةُ الناسَ، فيجدونه كما قالوا وزادوا مع كلِّ كلمة سبعين كلمةً، فاكتتب الناسُ ذلك الحديث في الكُتُب، وفشا في بني إسرائيل أنَّ الجنَّ تعلم الغيب، فبعث سُلَيمان ◙ فجَمَع تلك الكتب، فجعلها في صندوق، ثُمَّ دفنها تحت كرسيِّه، ولم يكن أحدٌ مِنَ الناس يستطيع أن يدنوَ مِنَ الكرسيِّ إلَّا احترق، وقال: لا أسمع أحدًا يذكر أنَّ الشياطين يعلمون الغيب إلَّا ضربتُ عُنُقَه، فلمَّا مات سُلَيمان وذهب العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان، وجاء شيطانٌ في صورة إنسانٍ إلى نَفَرٍ من بني إسرائيل؛ فقال لهم: هل أدلُّكُم على كنزٍ لا تأكلونه أبدًا؟ قالوا: نعم، قال: فاحتفروا تحت الكرسيِّ، فحفروا ووجدوا تلك الكتب، فلمَّا أخرجوها قال الشيطان: إنَّ سليمان إِنَّما كان يضبط الإنس والجنَّ والطير بهذا السِّحر، ثُمَّ طار وذهب، وفشا في الناس أنَّ سُلَيمان كان ساحرًا، فاتَّخذت بنو إسرائيل تلك الكتب، فلمَّا جاء مُحَمَّد صلعم خاصموه بها، فذلك قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}.
          فقوله: ({النَّاسَ}) مفعول أَوَّل، و({السِّحْرَ}) مفعولٌ ثانٍ، والجملة حالٌ مِن فاعل ({كَفَرُوا}) أي: كفروا مُعلِّمين، وقيل: هي بدل من {كفَروا}.
          وقوله ╡ : ({وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ}) كلمة {ما} موصولة، ومحلُّها النصب عطفًا على {السِّحرَ} تقديره: يعلِّمون الناسَ السحرَ والمُنزَلَ على المَلَكينِ.
          قوله: ({بِبَابِلَ}) يتعلَّق بـ({أُنزِلَ}) أي: في بابل، وهي مدينةٌ بناها نُمروذ بن كنعان، ويُنسَب إليها السِّحرُ والخَمر، وهي اليوم خرابٌ، وهي أقدمُ أبنية العِراق، وكانت مدينةَ الكنعانيِّين وغيرِهم، وقيل: إنَّ الضَّحَّاك أَوَّلُ مَن بنى بابل، وقال مؤيِّد الدولة: وبِبابِل أُلقيَ إبراهيم ◙ في النار.
          قوله: ({هَارُوتَ وَمَارُوتَ}) بدلٌ من ({المَلَكَينِ}) / أو عطف بيان، وفيه اختلافٌ كثير، والأصحُّ أنَّهما كانا مَلَكينِ مِنَ السماء أُنزِلا إلى الأرض، فكان مِن أمرهما ما كان، وقصَّتُهما مشهورة.
          قوله: ({وَمَا يُعَلِّمَانِ}) وقُرِئَ: {يُعلِمانِ} مِنَ الإعلام.
          قوله: ({فِتْنَةٌ}) أي: مِحنةٌ وابتلاء، وقال سُنَيْدٌ عن حَجَّاجٍ عن ابن جُرَيج في هذه الآية: لا يجترئُ على السحر إلَّا كافرٌ، وقال النوويُّ: عملُ السحر حرامٌ، وهو مِنَ الكبائر بالإجماع، وقد عدَّه النَّبِيُّ صلعم مِنَ الموبِقات، ومنه ما يكون كفرًا، ومنه ما لا يكون كفرًا، بل معصيةٌ كبيرة، فإن كان فيه قولٌ أو فعلٌ يقتضي الكفر؛ فهو كُفْرٌ، وإلَّا فلا، وأَمَّا تعلُّمه وتعليمه فحرامٌ، فإن كان فيه ما يقتضيه الكفرُ؛ كَفَر واستُتِيبَ منه ولا يُقتَل، فإن تاب قُبِلَت توبته، وإن لم يكن فيه ما يقتضيه الكفرُ عُزِّر، وعن مالك: الساحر كافرٌ، يُقتل بالسحر، ولا يُستتابُ، بل يتحتَّم قتلُه؛ كالزِّنديق، قال عياضٌ: وبِقولِ مالكٍ قال أحمدُ وجماعةٌ مِنَ الصحابة والتَّابِعينَ، وفي «فتاوى الصُّغرى»: الساحر لا يستتابُ في قول أبي حنيفة ومُحَمَّد، خلافًا لأبي يوسف، والزِّنديق يستتابُ عندهما، وعن أبي حنيفة روايتان، وعن أبي حنيفة: إذا أُتيتُ بزنديق استتبتُه، فإن تاب قبلت توبته، وقال ابن بَطَّالٍ: واختلف السَّلَف؛ هل يُسأل الساحر على حلِّ مَن سَحَرَه؟ فأجازه سعيد بن المسيِّب، وكرهه الحسن البِصْريُّ وقال: لا يَعلمُ ذلك إلَّا ساحرٌ، ولا يجوز إتيانُ الساحر؛ لِما روى سفيان عن أبي إسحاق عن هُبَيْرة عن ابن مسعود: «مَن مَشَىَ إلى ساحر أو كاهن، فصدَّقه بما يقول؛ فقد كفر بما أُنزل على مُحَمَّد صلعم »، وقال الطَّبَريُّ: نهيُه صلعم عن إتيان الساحر إِنَّما هو على التصديق له فيما يقول، فأَمَّا إذا أتاه لغير ذلك، وهو عالمٌ به وبحاله؛ فليس بمنهيٍّ عنه ولا عن إتيانه، وقد أجاز بعضُ العلماء تعلُّم السحر لأحد أمرين؛ إمَّا لتمييز ما فيه كفرٌ من غيره، وإمَّا لإزالته عمَّن وقَعَ فيه.
          قوله: ({وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أََتَى}[طه:69]) فيه نفيُ الفلاح _وهو الفوز_ عنِ الساحر، وليس فيه ما يدلُّ على كفره.
          قوله: ({أَفَتَأْتُونَ السِّحْرُ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ}[الأنبياء:3]) هذا خطابٌ لكفَّار قريش، يستبعِدون كونَ مُحَمَّد صلعم رسولًا؛ لكونه بشرًا، فقال قائلُهم مُنكِرًا على مَن اتَّبعه: {أَفَتَأْتٌونَ السِّحْر}؟ أي: أفتتَّبعونَه حَتَّى تصيروا كمَن اتَّبع السِّحر وهو يعلم أنَّهُ سحرٌ؟!
          قوله: ({يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أنَّها تَسْعَى}[طه:66]) أوَّله: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أنَّها تَسْعَى} يعني: يُخيَّل إلى موسى ◙ أنَّها حيَّاتٌ تسعى، وذلك لأنَّهم لطَّخوا حبالهم بالزَّئبَق، فلمَّا حَميَت الشمسُ اهتزَّت وتحرَّكت، فظنَّ موسى ◙ أنَّها تقصدُه، احتجَّ بهذه مَن زعم أنَّ السحر إِنَّما هو تخييلٌ، ولا حجَّة لهم في هذا؛ لأنَّ هذه وردت في قصَّة سَحَرة فرعون، وكان سحرُهم كذلك، ولا يلزم أنَّ جميعَ أنواع السحر كذلك تخييلٌ.
          قوله: ({وَمِنْ شَرِّ النَّفَاثَاتِ}[الفلق:4]) قد فسَّر {النفَّاثات} بـ(السَّواحِر) وهو تفسير الحسن البِصْريِّ، وأريد به: السواحرُ ينفثْنَ في عُقَد الخيوط للسِّحر.
          قوله: ({تُسْحَرُونَ}) أشار به إلى قوله تعالى: {سَيَقُولُونَ اللهُ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ}[المؤمنون:89] أي: كيف تُعَمَّون عن هذا وتصدُّون عنه؟
          قوله: (تُعَمَّوْنَ) بِضَمِّ التاء المُثَنَّاة مِن فوق وفتحِ العين المُهْمَلة وتشديد الميم المفتوحة، وقيل: بسكون العين.
          وقال ابن عطيَّة: السِّحر هنا مُستعارٌ لِما وقع منهم مِنَ التخليطِ ووضعِ الشيء في غير موضعه؛ كما يقع مِنَ المَسحور.
          فَإِنْ قُلْتَ: هذا لا يقومُ به الاحتجاجُ _على ما ذكره البُخَاريُّ هذه الآيات_ للاحتجاج على تحريم السحر.
          قُلْتُ: السِّحر على أنواع:
          منها: أنَّهُ بمعنى لَطُفَ ودَقَّ، ومنه: سحرتُ الصبيَّ: خدعتُه واستملْتُه، فكلُّ مَنِ استمال شيئًا فقد سحره، وفي هذه الآية إشارةٌ إلى هذا النوع.
          الثاني: ما يقع بخداعٍ وتخييلاتٍ لا حقيقة لها؛ نحو ما يفعله المشعوِذ مِن صرف الأبصار عمَّا يتعاطاه بخفَّة يدِه، وإليه الإشارةُ بقوله: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أنَّها تَسْعَى}[طه:66].
          والثالث: ما يحصُلُ بمعاونة الشياطينِ بضربٍ مِنَ التقرُّب إليهم، وإلى ذلك / الإشارةُ بقوله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}[البقرة:102].
          الرابع: ما يحصُلُ بمخاطبة الكواكب واستنزال روحانيَّاتِها.
          الخامس: ما يوجَد مِنَ الطَّلسَمات.