عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب الدواء بالعسل
  
              

          ░4▒ (ص) بابُ الدَّوَاءِ بِالْعَسَلِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان (الدَّوَاءِ بِالْعَسَلِ) وهو يُؤَنَّث ويُذكَّر، وأسماؤه تزيد على المئة، وله منافع كثيرةٌ: يجلي الأوساخَ التي في العروق والأمعاء، ويدفعُ الفضلات، ويَغسل خملَ المعدة ويسخِّنُها تسخينًا معتدلًا، ويفتح أفواهَ العروق، ويشدُّ المعدةَ والكبِد والكُلى والمثانة، وفيه تحليلٌ للرطوبات أكلًا وطِلاءً وتغذيةً، وفيه حفظٌ للمعجونات، وإذهابٌ لكيفيَّة الأدوية المستكرَهة، وتنقيةٌ للكبد والصدر، وإدرار البول والطمث، ونفعٌ للسُّعال الكائن مِنَ البلغم، ونفعٌ لأصحاب البلاغم والأمزجة الباردة، وإذا أُضِيف إليه الخلُّ نفعَ أصحابَ الصفراء، ثُمَّ هو غذاءٌ مِنَ الأغذية، ودواءٌ مِنَ الأدوية، وشرابٌ مِنَ الأشربة، وحلوى مِنَ الحلاوات، وطلاءٌ مِنَ الأطلية، ومفرِّح مِنَ المفرِّحات، ومِن منافعه: أنَّهُ إذا شُرِب حارًّا بدهن الورد نفع مِن نهش الحيوان، وإذا شُرِب وحده بماءٍ نفع مِن عضَّة الكلْب الكلِب، وإذا جُعِل فيه اللحمُ الطريُّ حفظ طراوته ثلاثةَ أشهرٍ، وكذا الخيار والقرع والباذنجان والليمون ونحو ذلك مِنَ الفواكه، وإذا لُطخ به البدنُ للقمل قتل القملَ والصيبان، وطوَّل الشعر وحسَّنه ونعَّمه، وإن اكتُحِل به جلا ظلمةَ البصر، وإنِ استُنَّ به صقل الأسنان وحفظ صحَّتها، وهو عجيبٌ في حفظ جثثِ الموتى، فلا يسرع إليها البلاء، وهو مع ذلك مأمونُ الغائلة، قليلُ المضرَّة، ولم يكن مُعوَّل قدماء الأطبَّاء في الأدوية المركَّبة إلَّا عليه، ولا ذِكرَ للسُّكَّر في أكثر كتبهم أصلًا، وهو في أكثر الأمراض والأحوال أنفعُ مِنَ السكَّر؛ لأنَّه مليحٌ ويجلو ويدرُّ ويحلِّل ويغسل، وهذه الأفعال في السُّكَّر ضعيفةٌ، وفي السُّكَّر إرخاءُ المعدة، وليس ذلك في العسل، وكان صلعم يشربُ كلَّ يومٍ قدحَ عسلٍ ممزوجًا بماءٍ على الريق، وهي حكمةٌ عجيبةٌ في حفظ الصحَّة، ولا يعقلها إلَّا العالِمون، / وكان بعد ذلك يغتذي بخبز الشعير مع الملح أو الخلِّ ونحوه، ويصابر شظف العيش ولا يضرُّه؛ لِما سبق مِن شربه العسلَ.
          (ص) وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}[النحل:69].
          (ش) (وقَوْلِ اللهِ) بالجرِّ عطفًا على قوله: (الدواء بالعسل) إِنَّما ذكَرَ قوله: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}[النحل:69] ليُنبِّه به على فضيلة العسل على سائر ما يُشرَب مِنَ المشروبات، وكيف وقد أخبر اللهُ بأنَّه شفاءٌ؟ وكان ابن عمر ☻ إذا خرجت به قرحةٌ أو شيءٌ لطخ الموضعَ بالعسل، ويقرأ: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}[النحل:69] وكان يقول: عليكم بالشفاءين؛ القرآن والعسل، وقال شقيقٌ: قال رسول الله صلعم «المبطون شهيدٌ، ودواءُ المبطون العسلُ».
          فَإِنْ قُلْتَ: الرجل الذي جاء إلى النَّبِيِّ صلعم ، فقال: أخي يشتكي بطنَه، فقال: «اسقِه عسلًا» فسقاه فلم يُفِده، حَتَّى أتى الثانيةَ والثالثة، فكذلك، حَتَّى قال صلعم : «صدق اللهُ، وكذب بطنُ أخيك...» الحديث على ما يأتي في هذا الباب.
          قُلْت: قد أخبر النَّبِيُّ صلعم عن غيبٍ أطلعه اللهُ عليه، وأعلمه بالوحي أنَّ شفاءَه بالعسل، فكرَّر عليه الأمرَ بِسقيِ العسل؛ ليظهر ما وعد به، وأيضًا قد عُلِم أنَّ ذلك النوع مِنَ المرض يشفيه العسل، وقال النوويُّ: اعترض بعض الملاحدة فقال: العسل مُسهِلٌ، فكيف يشفي لصاحب الإسهال؟ وهذا جهلٌ مِنَ المعترض، وهو كما قال: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ}[يونس:39] فإنَّ الإسهال يحصل مِن أنواع كثيرةٍ، ومنها الإسهالُ الحادث مِنَ الهيضة، وقد أجمع الأطبَّاء أنَّ علاجَه بأن تترك الطبيعة وفعلها، وإن احتاجت إلى مُعين على الإسهال أُعينت، فيحتمل أن يكون إسهاله مِنَ الهيضة، وأمره بشرب العسل معاونةٌ إلى أن فنيت المادة فوقف الإسهال، وقد يكون ذلك [مِن باب التبرُّك، ومِن دعائه وحسنِ أثره، ولا يكون ذلك حكمًا عامًّا لكلِّ الناس، وقد يكون ذلك] خارقًا للعادة مِن جملة المعجزاتِ، وقيل: المعنى: فيه شفاءٌ لبعض الناس، وأوَّلوا الآيةَ وحديثَ أبي سعيدٍ الذي يأتي على الخصوص، وقالوا: الحجامة وشرب العسل والكيُّ إِنَّما هو شفاءٌ لبعض الأمراض دون بعضٍ، ألا ترى قوله: «أو لذعة بنارٍ توافق الداء»؟ فشرط صلعم موافقتَها للداء، فدلَّ هذا أنَّها إذا لم توافق الداءَ، فلا دواءَ فيها، وقد جاء في القرآن ما لفظُه لفظُ العموم والمراد به الخصوصُ؛ كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:56] يريد المؤمنين، وقال في بلقيس: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}[النمل:23] ولم تُؤتَ مُلكَ سليمان ◙ ، ومثلُه كثيرٌ، واختلف أهل التأويل فيما عادت عليه الهاء في قوله: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}[النحل:69] فقال بعضهم: على القرآن، وهو قولُ مجاهدٍ، وقال آخرون: على العسل، رُويَ ذلك عن ابن مسعودٍ وابن عَبَّاسٍ، وهو قول الحسن وقتادة، وهو أَولى بدليل حديثَي الباب.