عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب: العين حق
  
              

          ░36▒ (ص) بابٌ: الْعَيْنُ حَقٌّ.
          (ش) أي: هذا بابٌ يُذكَر فيه: العينُ حقٌّ؛ أي: الإصابةُ بالعين ثابتٌ موجودٌ، ولها تأثيرٌ في النفوس، وأنكر طائفةٌ مِنَ الطبائعيِّين العينَ، وأنَّه لا شيء / إلَّا ما تدركه الحواسُّ الخمسُ، وما عداها فلا حقيقةَ له، والحديث يردُّ عليهم، وروى مسلمٌ مِن حديث ابن عَبَّاسٍ رفعه: «العينُ حقٌّ، ولو كان شيءٌ سابقٌ القَدَرَ سبقتْه العينُ، وإذا استُغسِلتُم فاغسلوا» وروى أبو داود مِن حديث عائشة ♦ أنَّها قالت: (كان يؤمَر العائنُ فيتَوَضَّأ، ثُمَّ يغتسل منه المعين) وروى النَّسائيُّ مِن حديث عامر بن ربيعة: أنَّ النَّبِيَّ صلعم قال: «إذا رأى أحدُكم مِن نفسِه أو مالِه أو أخيه شيئًا يُعجِبُه؛ فليدعُ بالبركة، فإنَّ العينَ حقٌّ» وروى التِّرْمِذيُّ مِن حديث أسماء بنت عُمَيسٍ أنَّها قالت: يا رسول الله؛ إنَّ ولد جعفر تُسرِع إليهم العينُ، أفنَسترقي لهم؟ قال: «نعم، فَإِنَّهُ لو كان شيءٌ سابقٌ القدَرَ؛ لسبقته العينُ» [وفي «كتاب ابن أبي عاصمٍ» مِن طريق صَعصَعة: «أكثرُ ما يَحفِرُ لأمَّتي مِنَ القبور العينُ» وقال أبو عمر: قوله صلعم : «علامَ يقتل أحدُكم أخاه؟» دليلٌ على أنَّ العين ربَّما قتلَتْ، وكانت سببًا مِن أسباب المنيَّة، وقولُه: «ولو كان شيءٌ يسبق القدَرَ؛ لسبقته العينُ»] دليلٌ على أنَّ المرء لا يُصيبُه إلَّا ما قُدِّر له، وأنَّ العين لا تسبق القدَر، ولكنَّها مِنَ القدر، وقولُه: «فليدعُ بالبركة» فيه دليلٌ على أنَّ العين لا تضرُّ ولا تعدو إذا برَّك العائنُ، فواجبٌ على كلِّ مَن أعجبه شيءٌ أن يبرِّك، فَإِنَّهُ إذا دعا بالبركة صُرِفَ المحذور لا محالةَ، والتبريك: أن يقول: تبارك الله أحسَنُ الخالقين، اللهمَّ بارِك فيه، ويؤُمَر العائنُ بالاغتسال، ويُجبَر إن أبى؛ لأنَّ الأمرَ حقيقةٌ للوجوب، ولا ينبغي لأحدٍ أن يمنع أخاه ما ينتفعُ به أخوه ولا يضرُّه هو، لاسيَّما إذا كان سببَه، وهو الجاني عليه، والاغتسال: هو أن يَغسل وجهه ويديه ومرفقَيه وركبتَيه وأطراف رِجْلَيه وداخلة إزاره في قَدَحٍ، ثُمَّ يصبَّ عليه، ويروَى: ويديه إلى المرفقين والرُّكبتين، وقال أبو عمر: وأحسنُ شيءٍ في تفسير الاغتسال ما وصفه الزُّهْريُّ راوي الحديثِ الذي عند مسلمٍ: يُؤتى بقدحٍ مِن ماءٍ، ثُمَّ يصبُّ بيده اليسرى على كفِّه اليمنى، ثُمَّ بكفِّه اليمنى على كفِّه اليسرى، ثُمَّ يدخل يده اليسرى فيصبُّ بها على مرفق يدِه اليمنى، ثُمَّ بيده اليمنى على مرفق يده اليسرى، ثُمَّ يغسل قدمَه اليمنى، ثُمَّ يدخل اليمنى فيغسل قدمه اليسرى، ثُمَّ يدخل يده اليمنى فيغسل الركبتين، ثُمَّ يأخذ داخِلة إزاره فيصبُّ على رأسه صبَّةً واحدةً، ولا يضع القَدح حَتَّى يفرغ، وأن يصبَّ مِن خلفه صبَّةً واحدةً يُجري على جسدِه، ولا يوضع القدح في الأرض، ويغسل أطرافه وركبتيه وداخلة إزاره في القدح، قال النوويُّ: لا يوضع القدح في الأرض، ولا يغسل ما بين المرفقين والكفَّين، واختلفوا في داخلة إزاره؛ فقيل: هو الطرف المتدلِّي الذي يلي حقوه الأيمن، وقيل: داخلةُ الإزار هي المئزر، والمراد بداخلته ما يلي الجسد منه، وقيل: المراد موضعه مِنَ الجسد، وقيل: مذاكيره، وقيل: المراد وركه؛ إذ هو معقد الإزار، قال عياضٌ: قال بعض العلماء: ينبغي إذا عُرِف واحدٌ بالإصابة بالعين أن يُتَجَنَّب ويُحتَرَز منه، وينبغي للإمام منعُه مِن مداخلة الناس، ويُلزِمه بلزوم بيته، وإن كان فقيرًا؛ رَزَقَه ما يكفيه، فضرُره أكثرُ مِن ضررِ آكِل الثوم والبصل الذي منعه النَّبِيُّ صلعم مِن دخول المسجد؛ لئلَّا يؤذيَ الناس، ومِن ضرر المجذوم الذي منعه عمر ☺ ، وقال القرطبيُّ: لو انتهت إصابة العين إلى أن يُعرَف بذلك، ويُعلم مِن حاله أنَّهُ كلَّما تكلَّم بشيءٍ معظِّمًا له أو متعجِّبًا منه أُصيب ذلك الشيء، وتكرَّر ذلك بحيث يصير ذلك عادةً؛ فما أتلفه بعينه غرِمَه، وإن قَتَل أحدًا بعينه عامدًا لقتله؛ قُتِل به، كالساحر القاتل بسحره عند مَن لا يقتله كفرًا، وأَمَّا عندنا فيُقتَل على كلِّ حال، قَتَل بسحره أو لا؛ لأنَّه كالزنديق.