الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب من اغتسل عريانًا وحده في الخلوة ومن تستر فالتستر أفضل

          ░20▒ (بَابُ مَنِ اغْتَسَلَ عُرْيَاناً): بضم العين (وَحْدَهُ فِي الخَلْوَةِ): وللكشميهني: <في خلوة>: أي: عن الناس، وعليهما فهو تأكيد لوحده، وثبت:<بسم الله الرحمن الرحيم> قبل (باب): لأبي ذر وحده (وَمَنْ تَسَتَّرَ): بتشديد التاء الثانية المفتوحة وبفتح الأولى أيضاً من باب التفعل، وللحموي، والمستملي: <ومن يستتر>: مضارع من باب الافتعال (فَالتَّسَتُّرُ أَفْضَلُ): الفاء في جواب (من) الثانية، ولأبوي ذر والوقت، والأصيلي، وابن عساكر: بالواو، وعليها فقوله: (ومن تستر): معطوف على (من اغتسل) عطف مفردات، وجملة: (والتستر أفضل) حالية، وأما على رواية الفاء: فهو من عطف الجمل.
          ودل (أفضل): على جواز التعري للاغتسال ونحوه، وهو مذهب جمهور العلماء من الشافعية وغيرهم خلافاً لابن أبي ليلى، وحكاه الماوردي وجهاً لأصحابنا فيمن نزل في الماء عرياناً بغير مئزر لحديث ضعيف: (لا تدخلوا الماء إلا بمئزر فإن للماء عامراً)، لكنه يقويه مارواه ابن وهب: أن ابن عباس لم يكن يغتسل في بحر، ولا نهر إلا وعليه إزار، وإذا سئل عن ذلك قال: إن له عامراً، وما رواه برد عن مكحول عن عطية مرفوعاً: (من اغتسل بليل في فضاء فليتحاد على عورته، ومن لم يفعل ذلك فأصابه لمم فلا يلومن إلا نفسه).
          ونقل ابن تيمية عن نص أحمد: أنه يكره دخول الماء بغير إزار، وقال إسحاق: هو بالإزار أفضل لقول الحسنين لما قيل لهما، وقد دخلا الماء عليهما بردان فقالا: إن للماء سكاناً، ولما رواه أبو داود في ((سننه))، وكذا النسائي عن يعلى: أن رسول الله صلعم رأى رجلاً يغتسل بالبراز، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (إن الله حيي ستير يحب الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر) ولما رواه أبو داود أيضاً في (مراسيله): عن النبي صلعم أنه قال: (لا تغتسلوا في الصحراء إلا أن تجدوا متوارى؛ فإن لم تجدوا متوارى فليخط أحدكم كالدائرة، فليسم الله تعالى ويغتسل فيه).
          والحاصل: أن كشف العورة في الخلوة جائز للحاجة ولغيرها حرام على الأصح، وعليه حملوا خبر أبي داود: (إذا اغتسل أحدكم فليستتر)
          (وَقَالَ بَهْزٌ): بفتح الموحدة وسكون الهاء وبالزاي، وزاد الأصيلي:<ابن حكيم> (عَنْ أَبِيهِ): أي: حكيم القشيري (عَنْ جَدِّهِ): هو معاوية بن حَيْدة _بحاء مهملة مفتوحة وتحتية ساكنة ودال مهملة_ صحابي معروف، وبه صرح الكمال، وظاهر صنيع البخاري يشعر بذلك.
          وأما بهز: فقال الحاكم: كان من الثقات ممن يجمع حديثه، وإنما سقط من ((الصحيح)) روايته عن أبيه عن جده؛ لأنها شاذة لا متابع له فيها، وقال الخطيب: حدث عنه الزهري ومحمد بن عبد الله الأنصاري، وبين وفاتيهما إحدى وتسعون سنة، وأما حَكيم _بفتح الحاء المهملة_ فهو تابعي ثقة
          (عَنِ النَّبِيِّ صلعم: اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ): فالله: مبتدأ بلا لام ابتداء، و(أحق): خبره، و(أن يستحيا): بتقدير من الأولى متعلقة بـ(يستحيا)، ومن الثانية: متعلقة بأحق، والسرخسي:<أحق أن يستتر منه>.
          وهذا التعليق رواه أصحاب السنن وغيرهم من طرق عن بهز، وصححه الحاكم، وروى ابن أبي شيبة بسنده إلى معاوية المذكور أنه قال: قلت: يا نبي الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: (احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك) قلت: يا رسول الله أحدنا إذا كان خالياً؟ قال: (الله أحق أن يستحيى منه من الناس).
          قال في ((الفتح)): والإسناد إلي بهز صحيح، ولهذا جزم به البخاري، وأما بهز وأبوه: فليسا من شرطه، ولهذا لما علق في النكاح شيئاً من حديث بهز وأبيه، لم يجزم به، بل قال: ويذكر عن معاوية بن حيدة، فعرف من هذا أن مجرد جزمه بالتعليق لا يدل على صحة الإسناد إلا إلى من علق عنه، وأما ما فوقه فلا يدل، وقد حققت ذلك فيما كتبته على ابن الصلاح، / وذكرت له أمثلة وشواهد.
          وعرف من سياق الحديث أنه وارد في كشف العورة، بخلاف ما قال أبو عبد الملك البوني: أن المراد بقوله: (أحق أن يستحيى منه): أي: فلا يعصى.
          ومفهوم قوله: (إلا من زوجتك): يدل على أنه يجوز لها النظر إلى ذلك منه، وقياسه: أنه يجوز له النظر إليها، ويدل أيضا على أنه لا يجوز له النظر لغير من استثنى، ومنه: نظر الرجل للرجل، والمرأة للمرأة.