الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب من بدأ بالحلاب أو الطيب عند الغسل

          ░6▒ (بَابُ مَنْ بَدَأَ بِالْحِلاَبِ أَوِ الطِّيبِ عِنْدَ الغُسْلِ): واستشكل العلماء مطابقة الحديث الآتي / لهذه الترجمة، وافترقوا في ذلك ثلاثة فرق:
          الأولى منهم: من نسب البخاري فيها إلى الوهم كالإسماعيلي؛ فإنه قال في ((مستخرجه)): رحم الله أبا عبد الله، من الذي يسلم من الغلط، ظن أن الحلاب طيب، وأي معنى له قبل الغسل، وإنما هو إناء يحلب فيه، ويسمى محلباً أيضاً، وقد جاء في بعض طرق هذا الحديث ما يبين أنه الإناء، كرواية ابني خزيمة وحبان:(أنه كان يغتسل من حلاب)، وكأبي عوانة في ((صحيحه)) وزاد:(فيأخذ غرفة بكفيه، فيجعلها على شقه الأيمن، ثم الأيسر)، الحديث.
          ومنهم الخطابي في (شرح أبي داود) فإنه قال: الحلاب: إناء يسع قدر حلب ناقة، وذكره البخاري، وأحسب أنه توهم أنه المحلب الذي يستعمل في غسل الأيدي، وليس الحلاب من الطيب في شيء، وإنما هو ما فسرت، قال الشاعر:
صاح هل رأيت أو سمعت براع                     رد في الضرع ما قرى في الحلاب
          وتبع الخطابي في ذلك ابن قرقول، وابن الجوزي، وابن بطال، وجماعة.
          الفرقة الثانية منهم: من ضبط لفظ:(الحلاب) على غير المعروف في الرواية لتصح المطابقة، فمنهم: الأزهري؛ فإنه قال في ((التهذيب)): (الجُلَّاب): في هذا الحديث، ضبطه جماعة بالمهملة واللام الخفيفة؛ أي: ما يحلب فيه، كالمِحلب _بكسر الميم_ فصفحوه، وإنما هو الجُلَّاب _بضم الجيم وتشديد اللام_ وهو ماء الورد فارسي معرب، وقد أنكر جماعة على الأزهري من جهة أن المعروف في الرواية: بالمهملة والتخفيف ومن جهة المعنى؛ لأن الطيب _كما قال ابن الأثير_ لأن يستعمل بعد الغسل أليق من قبله؛ لأنه إذا بدأ به ثم اغتسل، أذهبه الماء.
          وقال الحميدي في (الجمع بين الصحيحين): ضم مسلم هذا الحديث مع حديث الفرق، وحديث قدر الصاع في موضع؛ فكأنه تأولهما على الإناء، وأما البخاري: فربما يظن أنه تاولهما على أنه نوع من الطيب يكون قبل الغسل؛ لأنه لم يذكر في الترجمة غير هذا الحديث يعني: ويحتمل أنه أراد غير ذلك؛ لكن لم يفصح به.
          وقال القاضي عياض: (الحلاب)، والمِحلب _بكسر الميم_ إناء يملؤه قدر حلب الناقة، وقيل: المراد في هذا الحديث: مَحلب الطيب بفتح الميم، وترجمة البخاري تدل على أنه التفت إلى التأويلين، قال: ورواه بعضهم في غير ((الصحيحين)):(الجُلَّاب): بضم الجيم وتشديد اللام، ومراده الأزهري.
          وقال النووي: قد أنكر أبو عبيد الهروي على الأزهري ما قاله.
          وقال القرطبي: (الحِلاب): بكسر المهملة، لا يصح غيرها، وقد وهم من ظنه من الطيب، وكذلك من قاله: بضم الجيم وتشديد اللام؛ لأن ماء الورد في الفارسية: جُلاب _بتخفيف اللام مع ضم الجيم_ وأصله: كلاب، فكُلْ _بضم الكاف الصماء وسكون اللام_ اسم للورد عندهم، وآبْ _بمد الهمزة وسكون الباء الموحدة_ اسم للماء؛ وإنما الجلَّاب: بتشديد اللام: اسم للمشروب.
          الفرقة الثالثة: المتكلفة للترجمة تأويلات من غير تغيير، منهم: المحب الطبري، قال: لم يرد البخاري بقوله: (الطيب): ماله عرف طيب، وإنما أراد تطييب البدن بإزالة ما فيه من وسخ، ودرن، ونجاسة إن كانت، وإنما أراد (بالحلاب): الإناء الذي يغتسل منه، يبدأ به، فيوضع فيه ماء الغسل، قال: و(أو) في:(أو الطيب): بمعنى الواو، وكذا ثبت في بعض الروايات كما ذكره الحميدي، ومحصله: أنه حمله على انمداد ماء الغسل، ثم الشروع فيه.
          وقيل: يحتمل أن البخاري أشار إلى ما روي عن ابن مسعود، أنه كان يغسل رأسه بخطمي، ويكتفي به في غسل الجنابة، كما أخرجه ابن أبي شيبة وغيره عنه، ورواه أبو داود بسند ضعيف عن عائشة مرفوعاً؛ فكأنه يقول: دل هذا الحديث على أن النبي كان يستعمل الماء في غسل الجنابة، ولم يثبت أنه كان يقدم على ذلك شيئاً مما ينقي البدن كالسدر، ويقوي هذا ما في أكثر الروايات:(بالحلاب أو الطيب)، بـ(أو) الدالة على أن الطيب قسيم الحلاب، فيحمل على أنه من غير جنسه، وجميع من حمله على أنه من جنسه أشكل عليهم فاعترضوه، وهو الماء الذي فيه من إطلاق اسم المحل على الحال مجازاً، وبهذا يندفع ما قال الإسماعيلي، وكذا ما قاله الأزهري وغيره.
          وقال الكرماني بعد نقله لكلام ابن بطال التابع لخطابي فيه، وأقول: لم يتوهم البخاري ذلك، بل أراد به الإناء، ومقصوده أنه صلعم كان يبتديء عند الغسل بطلب ظرف للماء، وحينئذٍ لا يكون في حديث الباب ذكر الطيب، ولا يضر ذلك؛ لأن الترجمة إنما هي لأحد الأمرين لمجيئه بـ(أو) الفاصلة دون الواو الواصلة، فوفى بأحدهما، وكثيراً ما يذكر البخاري في الترجمة شيئاً، ولا يذكر حديثاً يتعلق به لأمور / تقدمت.
          وأيضاً هو مشترك الإلزام إذ لو أريد به الذي يستعمل في غسل الأيدي، لم يكن للطيب ذكر أيضاً، والمناسبة بين ظرف الماء، والطيب من حيث أن كلاً منهما يقع في مبتدأ الغسل، ويحتمل أيضاً أنه أراد بالحلاب: الإناء الذي فيه الطيب يعني: تارة بدأ بظرف الطيب، وأخرى بطلب نفس الطيب، سلمنا أنه يوهم ما يستعمل في غسل الأيدي؛ لكن غرضه منه أنه ليس بطيب، بدليل جعله قسيماً له يعني: يبتدئ بأحدهما؛ لأن المقصود رفع الأذى، وذلك بأحد أمرين، إما بمزيل له: وهو ما تغسل به اليد، وإما بتحصيل ضده: وهو الطيب. انتهى ملخصاً.
          قال الجوهري: حب المَحلب _بالفتح_ دواء، والحُلبة _بالضم_ حب معروف، والحُلَّب _بضم الحاء وفتح اللام المشددة_ نبت تعتاده الأطباء، وقال الأصمعي: هي بقلة جعدة غبراء في خضرة تنبسط على الأرض، يسيل منها اللبن إذا قطع شيء منها، وسقاء حُلبتي، وهو ما دبغ بالحلبة. انتهى.