الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب تفريق الغسل والوضوء

          ░10▒ (بَابُ تَفْرِيقِ الغُسْلِ وَالوُضُوءِ): أي: جواز ذلك كما قدره في ((الفتح))، وهو أولى من تقدير العيني، وإن تبعه القسطلاني: هل هو جائز أم لا؟ لأن ما ذكره في الباب لا يدل إلا على الجواز، وهو قول الشافعي في الجديد، واحتج له: بأن الله أوجب غسل الأعضاء فمن غسلها فقد أتى بما وجب عليه فرقها أولا.
          وهذا الباب وقع في نسخ بعد الذي يليه، وهي رواية الأصيلي، وابن عساكر، والأكثر كما هنا.
          (وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ): أي: ابن الخطاب (أَنَّهُ غَسَلَ قَدَمَيْهِ بَعْدَمَا جَفَّ وَضُوؤهُ): بفتح الواو، وفي فرع اليونينية: بضمها، وكلاهما صحيح، وعلى كل ففيه دليل على جواز تفريق أعضاء الوضوء.
          هذا الأثر، رواه في (الأم) بسند صحيح، عن مالك، عن نافع عنه، وفيه زيادة: أنه توضأ في السوق دون رجليه، ثم رجع إلى المسجد، فمسح على خفيه، ثم صلى، فيحتمل أنه لم يجزم به لكونه ذكره بالمعنى.
          قال الشافعي: لعله قد جف وضوؤه؛ لأن الجفاف يحصل بأقل مما بين السوق والمسجد.
          وبقول ابن عمر: قال ابن المسيب، وعطاء، وجماعة، كما قاله في ((الفتح)).
          وقال ابن الملقن: وهذا الأثر _كما قاله البيهقي_ رواه الشافعي عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر: أنه توضأ بالسوق فغسل وجهه، ويديه، ومسح برأسه، ثم دعي لجنازة فدخل المسجد ليصلي عليها، فمسح على خفيه، ثم صلى عليها، قال الشافعي: وأحب أن يتابع الوضوء، ولا يفرقه؛ فإن قطعه فأحب أن يستأنف وضوءه، ولا يتبين لي أن يكون عليه استئناف وضوء.
          وقد روينا في حديث ابن عمر جواز التفريق، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي في الجديد، وهو قول ابن عمر، وابن المسيب، وعطاء، وطاووس، والنخعي، والحسن، وسفيان بن سعيد، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم، وعن الشافعي: لا يجزئه ناسياً كان أو عامداً، وهو قول عمر بن الخطاب، وبه قال قتادة، وربيعة، والأوزاعي، والليث، وابن وهب، وذلك إذا فرقه حتى جف، وهو ظاهر مذهب مالك، وإن فرقه يسيراً جاز، وإن كان ناسياً فقال ابن القاسم: يجزئه، وقال ابن حبيب عن مالك: يجزئه في الممسوح دون المغسول، وعن ابن أبي زيد: يجزئه في الرأس خاصة، وقال ابن مسلمة في (المبسوط): يجزئه في الممسوح، رأساً كان أو خفاً. انتهى.
          وأقول: وممن صرح بوجوبها في الغسل، والوضوء على الأصح من المالكية: ابن الحاجب في (مختصره) وعبارته: والموالاة كالوضوء، وقال في الوضوء: في عد فروضه: والسادس: الموالاة، وقيل: سنة. انتهى.
          ولم يذكر الشراح مذهب أحمد، وهي فرض في الوضوء سنة في الغسل على الصحيح عنده، وهو المذهب، وعن أحمد رواية: أنها سنة في الوضوء أيضاً، وعنه: أنها تشترط أيضاً، واستدلوا في الوضوء بقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] الآية؛ لأن الأول شرط، والثاني جواب، فإذا وجد الشرط وجب أن لا يتأخر جوابه، ولما روى أحمد وأبو داود من حديث خالد بن معدان: أن النبي صلعم رأى رجلاً يصلي، وفي ظهر قدميه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء، فأمره أن يعيد الوضوء، ولم يشترط في الغسل من الجنابة؛ لأن المغسول منه بمنزلة العضو الواحد، كما نص على جميع ذلك في (المنتهى) و((شرحه))، فاعرفه.
          وقال الطحاوي: جفوف الوضوء ليس بحدث فلا ينقض، كما أن جفوف سائر الأعضاء لا يبطل الطهارة، والذي مضى عليه عمل النبي الموالاة، وتواطأ على ذلك فعل السلف، واحتج من لم يجوز التفريق؛ بأن التنحي من موضع الغسل، يقرب ويبعد، واسم التنحي بالقرب / أولى، لا يقال: لما جاز التفريق اليسير يجوز الكثير كما في أعمال الحج؛ لأنا نقول: قد جاز العمل اليسير في الصلاة، ولم يجز الكثير، وقياس الطهارة على الصلاة، أولى من قياسها على الحج؛ لأن الطهارة ترادف الصلاة.