الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: هل يدخل الجنب يده في الإناء

          ░9▒ (بَابٌ: هَلْ يُدْخِلُ): بضم التحتية (الجُنُبُ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ): أي: الذي فيه ماء للغسل (قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهَا): أي: اليد بماء خارج الإناء ليرتفع جنابتها (إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى يَدِهِ قَذَرٌ): أي: شيء مستكره من نجس أو غيره (غَيْرُ الجَنَابَةِ؟): أي: المعنوية لا الحسية التي هي المني؛ فإنها تغسل حينئذٍ منه قبل إدخالها.
          وظاهر صنيع المؤلف: أنه لا يمتنع عليه أن يدخلها قبل غسلها بالشرط المذكور، وبه صرح المهلب كابن بطال فقال: أشار البخاري إلى أن يد الجنب إذا كانت نظيفة جاز له إدخالها الإناء قبل أن يغسلها؛ لأنه ليس شيء من أعضائه نجساً، بسبب كونه جنباً، لقوله صلعم: (سبحان الله، إن المؤمن لا ينجس).
          وقال العيني: (غير الجنابة): يشعر بأن الجنابة نجس، وليس كذلك؛ لأن المؤمن لا ينجس كما ثبت ذلك في ((الصحيح))، وقال بعضهم: (غير الجنابة): أي: حكمها؛ لأن أثرها مختلف فيه، فدخل في قوله: (قذر). قلت: لم تدخل الجنابة في القذر أصلاً؛ لأنها أمر معنوي لا يوصف بالقذر حقيقة، فما مراد هذا القائل من قوله: أي: حكمها؟ فإن كان الاغتسال، فلا دخل له هاهنا، وإن كان النجاسة، فقد قلنا:إن المؤمن لا ينجس، وكذا إذا كان مراده من قوله: لأن أثرها؛ أي: المني، فهو طاهر في زعمه. انتهى كلام العيني.
          وقال ابن حجر في (الانتفاض): من لا يفهم أن المراد النجاسة الحكمية التي عند الغسل، ولم يعه يسقط الكلام معه، وترديده المذكور يغني سماعه عن تكلف التشاغل به.
          وأقول: وصف الجنابة بالنجاسة الحكمية، وبالقذر مجازاً لا مانع منه، ولم يدع صاحب ((الفتح)) الحقيقة ليردها على أنه لا مانع أيضاً من جعل الاستثناء منقطعاً، وأثر الجنابة ما ينشأ عنها من كون مائها المستعمل في رفعها غير طهور أو نجس، فلا يدخل الجنب يده في الماء القليل؛ لئلا ينجس على قول، وهذا المعنى صحيح لا غبار عليه، وإن أريد بالأثر المني فكذلك؛ لأنه وإن كان طاهراً عند الشافعي؛ لكنه فيه خلاف فقيل: بنجاسته، فلعل البخاري يرى ذلك، أو لأنه لا يلزم من طهارته أنه لا يغسل لاستقذاره، فلذا قال: (غير الجنابة)، والشارح يشرح على مقتضى اللفظ الذي يشرحه، ثم يبين مذهبه إن شاء، سواء وافق ما تقتضيه العبارة أو لا، فتأمل
          (وَأَدْخَلَ ابْنُ عُمَرَ): أي: ابن الخطاب (وَالبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، يَدَهُ): بالإفراد؛ أي: أدخل كل منهما يده (فِي الطَّهُورِ): بفتح الطاء، وهو الماء الذي يتطهر به (وَلَمْ يَغْسِلْهَا): أي: اليد كل واحد (ثُمَّ تَوَضَّأَ): أي: كل منهما، ولأبي الوقت: بالتثنية في <يديهما>، و<لم يغسلاها>، و<توضأا> في الثلاثة، وهي ظاهرة، وأثر ابن عمر وصله سعيد بن منصور بمعناه؛ لكن روى عبد الرزاق عنه: أنه كان يغسل يده قبل التطهر.
          قال في ((الفتح)): ويجمع بينهما: بأن ينزلا على حالين، فحيث لم يغسل كان متيقناً أن لا قذر في يده، وحيث غسل كان ظاناً أو متيقناً أن فيها شيئاً، أو غسل للندب، وترك للجواز.
          واعترضه العيني فقال: كيف يكون تركه للجواز إذا كان بيده قذر، وإن لم يكن فلا يضر؟ فلم يحصل التوفق بينهما بما ذكره.
          وأقول: ليس في قول ((الفتح)): أو غسل للندب، وترك للجواز ما يدل على أن القذر لو وجد كان نجساً، ولو لم يوجد قذر جاز أن يغسلهما لأمر آخر كمزيد النظافة، فكيف قال العيني ما قال؟ / فتأمل.
          وأما أثر البراء: فقد وصله ابن أبي شيبة بلفظ: أنه أدخل يده في المطهرة قبل أن يغسلها.
          وقال ابن الملقن: وأما ما رواه ابن أبي شيبة، عن ابن عمر قال: من اغترف من ماء، وهو جنب فما بقي منه نجس: فمحمول على أنه كان في يده قذر غير الجنابة، وإلا فهو معارض لما روى البخاري عن ابن عمر. انتهى.
          وأقول: قال العيني بعد ذكره: وهذا الأثر من أقوى الدلائل لمن ذهب من الحنفية إلى نجاسة الماء المستعمل.
          وأقول: بعد ثبوته، علمت الجواب عنه.
          ونقل ابن الملقن: أن قول ابن عمر والبراء قول سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وابن سيرين، وسالم، وقال الشعبي: كان أصحاب رسول الله يدخلون أيديهم الماء قبل أن يغسلوها وهم جنب، وكذلك النساء، ولا يفسد ذلك بعضهم على بعض كما ذكر ذلك ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، وإدخال من ذكر أيديهم صادق بأن يكون بنية الاغتراف وبغيرها
          (وَلَمْ يَرَ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ بَأْساً بِمَا يَنْتَضِحُ): أي: يترش (مِنْ غُسْلِ الجَنَابَةِ)
          قال العيني: ويقرب من ذلك ما روي عن أبي يوسف فيمن كان يصلي، فانتضح عليه البول أكثر من قدر الدرهم؛ فإنه لا يفسد صلاته، بل ينصرف، ويغسل ذلك، ويبني على صلاته. انتهى.
          ووجه مطابقة الأثرين الأولين للترجمة ظاهر، وأما مطابقة هذين لها فهي: أن الجنابة الحكمية لو كانت تؤثر في الماء لامتنع الاغتسال من الإناء الذي تقاطر فيه ما لاقى بدن الجنب من ماء اغتساله.
          قال في ((الفتح)): ويمكن أن يقال: إنما لم ير الصحابي بذلك بأساً؛ لأنه مما يشق الاحتراز عنه، فكان في مقام العفو، كما روى ابن أبي شيبة، عن الحسن البصري أنه قال: ومن يملك انتشار الماء؟ إنا لنرجو من رحمة الله ما هو أوسع من هذا.
          واعلم أن أثر ابن عمر هذا وصله عبد الرزاق بمعناه، وأما أثر ابن عباس هذا: فرواه ابن أبي شيبة بسنده عنه لكنه منقطع: في الرجل يغتسل من الجنابة، فينتضح في إنائه من غسله، فقال: لا بأس به، وروي مثله عن أبي هريرة، وابن سيرين، والنخعي، والحسن كما حكاه ابن بطال.
          لكن نقل ابن التين عن الحسن أنه قال: إن كانت جنابته من وطء، ويده نظيفة، فلا بأس بها، وإن كانت من احتلام هراقه ليلاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده فيصيبه، ومثله روي عن ابن حبيب، لكن صرح بأنها تنجس الماء فقال: من أدخل يده في وضوئه قبل أن يغسلها ساهياً أو عامداً، فلا شيء عليه، إلا أن يكون بات جنباً، فلا يدري ما أصاب يده من جنابته، فإذا أدخلها قبل الغسل نجس الماء.