نجاح القاري لصحيح البخاري

باب إذا رأت المستحاضة الطهر

          ░28▒ (باب) بالتنوين (إِذَا رَأَتِ الْمُسْتَحَاضَةُ الطُّهْرَ) بأن انقطع دمها، وجواب إذا محذوف ؛ أي: تغتسل وتصلي، ولو كان ذلك الطهر ساعة، وهو المعنى الذي قصده البخاري بدليل ذكره الأثر المروي عن ابن عباس ☻ .
          وقال الحافظ العسقلاني: أي: تَمَيَّزَ لها دم العِرْقِ من دم الحيض، فَسُمِّيَ دمُ الاستحاضة طُهْراً ؛ لأنه كذلك بالنسبة إلى زمن الحيض، ويحتمل أن يُريدَ به انقطاعَ الدم، والأول أوفق للسياق. انتهى.
          وتعقَّبه محمود العيني: بأن فيه كلاماً من وجوه:
          الأول: أن كلامه يدل على أن دَمَها مستمِرٌّ، ولكن لها أن تميز بين دَمِ العِرْقِ ودم الحيض، والترجمة ليست كذلك فإنه نص فيها على الطهر، وحقيقته الانقطاع.
          والثاني: أنه قال: فسمى الاستحاضة طهراً، وهذا مجاز لا داعي له ولا فائدة فيه.
          والثالث: أنه قال: والأول أوفق للسياق، وهذا عكس ما قصده البخاري، بل الأوفق للسياق ما ذكرناه. انتهى، وهو الذي ذكرناه أولاً، فليتأمل.
          (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ (تَغْتَسِلُ) أي: المستحاضة (وَتُصَلِّي) إذا رأت الطهر (وَلَوْ) كان الطهر (سَاعَةً) وفي بعض النسخ: <ولو ساعة من نهار>.
          قال الداودي: معناه: إذا رأت الطهر ساعة، ثمَّ عاودها دم، فإنها تغتسل وتصلي، وهذا الأثر طبق الترجمة، ومن هذا يُعْلَمُ أن أقلَّ الطُّهر عند ابن عباس ☻ ساعة.
          وأما عند جمهور الفقهاء ؛ فأقله خمسة عشر يوماً، وهو قول أصحابنا، وبه قال الثوري والشافعي، وقال ابن المنذر: ذكر أبو ثور أن ذلك لا يختلفون فيه فيما يعلم.
          وفي ((المهذب)): لا أعرف فيه خلافاً، وقال المحاملي: أقل الطُّهر خمسة عشر يوماً بالإجماع ونحوه في ((التهذيب)) وقال الباجي: أجمع الناس على أن أقلَّ الطهر خمسة عشر يوماً(1) .
          وقال النووي: دعوى الإجماع غير صحيح ؛ لأن الخلاف فيه مشهور، فإن / أحمد وإسحاق أنكرا التجديد في الطهر، فقال أحمد: الطهر بين الحيضتين على ما يكون،
          وقال إسحاق: توقيفهم الطهر بخمسة عشر غيرُ صحيح.
          وقال ابن عبد البر: أما أقل الطهر فقد اضطرب فيه قول مالك وأصحابه، فروى ابن القاسم عنه عشرة أيام، وروى سحنون عنه ثمانية أيام، وقال عبد الملك بن الماجشون: أقل الطهر خمسة أيام، ورواه عن مالك ☼ .
          وهذا التعليق وصله ابن أبي شيبة، والدارمي من طريق أنس بن سيرين، عن ابن عباس ☻ أنه سأله عن المستحاضة فقال: «أما ما رأت الدم البحراني فلا تصلي، وإذا رأت الطهر ولو ساعة، فلتغتسل وتصلي».
          (وَ) عن ابن عباس ☻ أيضاً أنه (يَأْتِيهَا) أي: المستحاضة (زَوْجُهَا) يعني: يطؤها، وبه قال الجمهور وعامة العلماء، ومنع ذلك قوم، وروي ذلك عن عائشة ♦ قالت: (المستحاضة لا يأتيها زوجها)، وهو قول إبراهيم النخعي والحكم وابن سيرين والزهري.
          وقال الزهري: إنما سمعنا بالرخصة في الصلاة، وحجة الجماعة: أن دم الاستحاضة ليس بأذى يمنع الصلاة والصوم، فوجب أن لا يمنع الوطء، وروى أبو داود في ((سننه)) من حديث عكرمة قال: «كانت أم حبيبة تستحاض، وكان زوجها يغشاها ؛ أي: يجامعها»، ورواه البيهقي أيضاً، وروى أبو داود أيضاً عن عكرمة عن حَمْنَة بنت جحش: «أنها كانت مستحاضة، وكان زوجها يجامعها».
          وقال الحافظ زكي الدين: في سماع عكرمة عن أم حبيبة وحَمْنَة نظر، وليس فيهما ما يدل على سماعه منهما، وهذا أثر آخر عن ابن عباس ☻ ، وصله عبد الرزاق وغيره من طريق عكرمة عنه قال: المستحاضة لا بأس أن يأتيها زوجها.
          وقوله: (إِذَا صَلَّتْ) ليس له تعلُّق بقوله: ويأتيها زوجها من حيث الروايةُ، وإن كان له تعلق به من حيث المعنى، فإن المعنى: أن المستحاضة إذا صلت ؛ أي: إذا أرادت الصلاة تغتسل وتصلي ويأتيها زوجها، وفي مثل هذا رأيان: رأي البصريين، ورأي الكوفيين.
          أما على رأي الكوفيين: فجوابها ما تقدمها وهو قوله: تغتسل وتصلي ويأتيها زوجها.
          وأما على رأي البصريين: فالجواب محذوف مقدر.
          وقوله: (الصَّلاَةُ أَعْظَمُ) من الجماع، فإذا جاز لها الصلاة، فالجماع بطريق الأولى.
          قال الحافظ العسقلاني: والظاهر أن هذا بحث من البخاري أراد به بيان الملازمة بين جواز الصلاة، وجواز الوطء ؛ لأن أمر الصلاة أعظم من أمر الجماع.
          وذكر بعض / الشراح: أن قوله: ((الصلاة أعظم)) من بقية كلام ابن عباس ☻ ، وعزاه إلى تخريج ابن أبي شيبة، وليس هو فيه.
          نعم، روى عبد الرزاق والدارمي من طريق سالم الأفطس أنه سأل سعيد بن جبير عن المستحاضة أتُجِامَع؟ قال: الصلاة أعظمُ من الجماع.


[1] ((من قوله: بالإجماع... إلى قوله: عشر يوماً)): ليس في (خ).