نجاح القاري لصحيح البخاري

باب إذا حاضت في شهر ثلاث حيض

          ░24▒ (باب) بالتنوين ؛ أي: هذا باب في بيان حكم الحائض (إِذَا حَاضَتْ فِي شَهْرٍ) واحد (ثَلاَثَ حِيَضٍ) بكسر الحاء وفتح الياء جمع: حيضة (وَ) بيان (مَا يُصَدَّقُ) بضم الياء وتشديد الدال (النِّسَاءُ فِي) مدة (الْحَيْضِ وَ) مدة (الْحَمْلِ) وفي نسخة: <والحبل> _بفتح الباء الموحدة_ (فِيمَا يُمْكِنُ مِنَ الْحَيْضِ) أي: من تكراره، ولهذا لم يقل: ومن الحمل؛ لأنه لا معنى للتصديق في تكرار الحمل، ومفهومه أنه إذا لم يكن لم تصدق.
          (لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) وعند الأصَيلي: <╡> وهو علة للتصديق ({وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ}) [البقرة:228]: ووجه الدلالة عليه: أنها إذا لم يحل لها الكتمان، وجب الإظهار، فلو لم تصدق فيه لم يكن للإظهار فائدة، ففي الآية دلالة على أن قولها مقبول في ذلك.
          وروى الطبري بإسناد صحيح، عن الزهري قال: بلغنا أن المراد بما خلق الله في أرحامهن الحمل أو الحيض، ولا يحل لهن أن يكتمن ذلك لتنقضي العدة، ولا يملك الزوج الرجعة إذا كانت له.
          وروي أيضاً بإسناد حسن عن ابن عمر ☻ قال: لا يحل لها إذا كانت حائضاً أن تكتم حيضها، ولا إن كانت حاملاً أن تكتم حملها.
          وعن مجاهد: لا تقول: إني حائض وليست بحائض، ولا لست بحائض وهي حائض، وكذا في الحبل، وزاد الأَصيلي: <قوله تعالى: {إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ}> [البقرة:228] وليس المراد منه تقييد نفي الحل بإيمانهن، بل التنبيه على أنه ينافي الإيمان وأن المؤمن لا يجترئ على ذلك، ولا ينبغي له أن يفعل.
          (وَيُذْكَرُ) بصيغة المجهول (عَنْ عَلِيٍّ) هو ابن أبي طالب ☺ (وَ) عن (شُرَيْحٍ) بضم المعجمة، هو ابن الحارث، بالمثلثة، الكندي، أبو أمية الكوفي، ويقال: إنَّه من أولاد الفرس الذين كانوا باليمن، أدرك النبي صلعم ولم يلْقَه، استقضاه عمر ☺ على الكوفة، / وأقره مَنْ بَعده إلى أن تَركَ هو بنفسه زَمَنَ الحجاج، كان له مائة وعشرون سنة، مات عام ثمانية وتسعين وهو أحد الأئمة.
          (إِنْ امرأة جَاءَتْ) وفي رواية: <إنِ امرأة جاءت> بكسر النون (بِبَيِّنَةٍ) الباء للتعدية (مِنْ بِطَانَةِ أَهْلِهَا) بكسر الباء ؛ أي: من خواصها (مِمَّنْ يُرْضَى دِينُهُ) وأمانته بأن يكون عدلاً (أَنَّهَا) أي: تشهد بأنها (حَاضَتْ فِي شَهْرٍ) ولابن عساكر: <في كل شهر> (ثَلاَثاً) وفي رواية: <ثلاث حيض> (صُدِّقَتْ).
          وقال القاضي إسماعيل: ليس المراد أن تشهد النساء أن ذلك وقع، وإنما هو فيما يرى أن يشهدن بأن ذلك يَكون وقد كان في نسائهن، لكن سياق الحديث يدفع هذا، فإن الظاهر منه: أن المراد أن يشهدن بأن ذلك وقع منها، فافهم.
          ثمَّ إن هذا تعليق بلفظ التمريض، وقد وصله الدَّارمي قال: أخبرنا يحيى بن عبيد: حدَّثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن عامر هو الشعبي، قال: «جاءت امرأة إلى علي ☺ تخاصم زوجها طَلَّقَها فقالت: حضت في شهر ثلاث حيض، فقال عليٌّ لشريح: اقض بينهما، قال: يا أمير المؤمنين وأنت هاهنا؟ قال: اقض بينهما، قال: إن جاءت من بطانة أهلها ممن يُرضى دينُه وأمانتُه؛ يزعم أنها حاضت ثلاث حيض، تطهر عند كل قرء وتصلي، جاز لها وإلا فلا، قال علي ☺: قالون، ومعناه بلسان الروم: أحسنت».
          ورواه ابن حزم وقال: ورويناه: عن هشيم، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي: «أن علياً ☺ أُتيَ برجلٍ طلَّق امرأته فحاضت ثلاث حيض في شهر أو خمس وثلاثين ليلة فقال عليٌّ لشريح: اقض فيها، فقال: إن جاءت بالبينة من النساء العدول من بطانة أهلها ممن يُرضى صدقُه وعدلهُ أنها رأت ما يحرم عليها الصلاة من الطمث تغتسل عند كل قرء وتصلي فيه، فقد انقضت عدتها، وإلا فهي كاذبة، فقال علي بن أبي طالب ☺: قالون، ومعناه: أصبت».
          هذا، وقد اختُلِفَ في سماع الشعبي عن عليٍّ ☺، فقال الدارقطني: لم يسمع منه إلا حرفاً، ما سمع غيره.
          وقال الحازمي: لم يُثْبِتْ أئمةُ الحديثِ سماعَ الشعبِّي من عليٍّ ☺.
          وقال ابن القطان: منهم من يدخل بينه وبينه: عبدَ الرحمن بن أبي ليلى، وسنُّه محتمل لإدراك علي ☺.
          فقال صاحب ((التلويح)): فكأنَّ البخاري لمح بهذا بقوله: ويذكر بصيغة التمريض، وفيه نظر ؛ لأن البخاري مصرِّحٌ بسماع الشعبي منه، على أنه ذَكَر في العَتَمَة [خ¦564]، / ويذكر عن أبي موسى: كنا نتناوب...إلى آخره بصيغة التمريض، وهو سند صحيح عنده، فتأمل.
          ثمَّ إن مذهب أبي حنيفة ☼ : أن المرأة لا تصدق في انقضاء العدة في أقل من ستين يوماً، وعن محمد بن الحسن فيما حكاه ابن حزم عنه: تصدق في أربعة وخمسين، وعن أبي يوسف: تصدق في تسعة وثلاثين يوماً، وبه قال محمد بن الحسن في رواية عنه والثوري، وعن أبي ثور: في سبعة وأربعين يوماً، وعن الشافعي: تصدق في ثلاثة وثلاثين يوماً، وذكر ابن أبي زيد، عن سحنون: أقل العدة أربعون يوماً.
          ومطابقة هذا الأثر للترجمة من جهة قوله: وما يصدق النساء في الحيض فيما يمكن من الحيض، والشهر يمكن فيه ثلاث حيض خصوصاً على مذهب مالك والشافعي، فإن أقل الحيض عند مالك في حق العدة ثلاثة أيام، وفي ترك الصلاة والصوم وتحريم الوطء دفعة، وعند الشافعي في الأشهر: أنَّ أقله يوم وليلة، وهو قول أحمد.
          فإن قيل: عندكم أيها الحنفية أقل الحيض ثلاثة أيام، فلم شرطتم في تصديقها بستين يوماً على مذهب أبي حنيفة؟، فالجواب: أن أقل الطُّهر عندنا: خمسة عشر يوماً، فإذا أقرت بانقضاء عدتها لم تصدق في أقل من ستين يوماً ؛ لأنه يجعل كأنه طلقها أول الطهر وهو خمسة عشر يوماً، وحيضها خمسة اعتباراً للعادة، فيحتاج إلى ثلاثة أطهار، وثلاث حيض.
          (وَقَالَ عَطَاءٌ) أي: ابن أبي رباح (أَقْرَاؤُهَا) جمع: قُرْء، بضم القاف وفتحها (مَا كَانَتْ) أي: أقراؤها في زمن العدة ما كانت قبل العدة ؛ أي: لو ادعت في زمن الاعتداد أقراء معدودة في مدة معينة في شهر مثلاً، فإن كانت معتادة بما ادعته فذاك، وإن ادعت في العدة ما يخالف ما قبلها لم تقبل، وهذا الأثر المعلَّق وصَلَه عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء.
          (وَبِهِ) أي: بما قال عطاء (قَالَ إِبْرَاهِيمُ) أي: النخعي، وقد وصله عبد الرزاق أيضاً: عن أبي معشر، عن إبراهيم نحوه، وروى الدَّرامي أيضاً بإسناد صحيح إلى إبراهيم قال: إذا حاضت المرأة في شهر، أو أربعين ليلة ثلاث حيض، فذكر نحو أثر شريح، وعلى هذا فيحتمل أن يكون الضمير في قوله: (وبه) يعود إلى أثر شريح، أو في النسخة تقديم وتأخير، أو لإبراهيم في المسألة قولان.
          (وَقَالَ عَطَاءٌ) هو المذكور سابقاً (الْحَيْضُ يَوْمٌ إِلَى خَمْسَ عَشْرَةَ) وفي رواية: <إلى خمسة عشر> هذا إشارة إلى أن أقل الحيض عند عطاء يوم، وأكثره خمسة عشر، وهذا المعلق وصله الدارمي بإسناد صحيح عنه قال: / أقصى الحيض خمس عشرة، وأدنى الحيض يوم، ورواه الدارقطني قال: حدَّثنا الحسين: حدَّثنا إبراهيم: حدَّثنا النفيلي: حدَّثنا معقل بن عبد الله، عن عطاء: أدنى وقت الحيض يوم، وأكثره خمس عشرة.
          وقد اختلف العلماء في أقل مدة الحيض وأكثره ؛ فمذهب أبي حنيفة: أقله ثلاثة أيام، وما نقص عن ذلك فهو استحاضة، وأكثره عشرة أيام، وعن أبي يوسف: أقله يومان، والأكثر من اليوم الثالث، واستدل أبو حنيفة ☼ بأحاديث كثيرة ناطقة بمضمون أن أقل الحيض ثلاثة، وأكثره عشرة، وإن قيل: إن كلاً منها ضعيف، لكن يحدث عند الاجتماع ما لا يحدث عند الانفراد كما قيل:
وضَعِيفان يَغْلِبَان قَوِيّا
          على أن بعض طرقها صحيحة، وذلك يكفي للاحتجاج خصوصاً في المقدَّرات، والعملُ به أولى من العملِ بالحكايات المرويَّة عن نساءٍ مجهولة، لاسيَّما تُقَوِّيه الآثار المنقولة عن الصحابة ♥ .
          (وَقَالَ مُعْتَمِرٌ) هو ابن سليمان، وكان أعبد زمانه (عَنْ أَبِيهِ) سليمان بن طِرْخَان التيمي البصري، قال شعبة: ما رأيت أحداً أصدق من سليمان كان إذا حدَّث عن النبي صلعم تغير لونه، وقال: شكُّه يقين، وكان يصلي الليل كلَّه بوضوء العشاء الأخيرة.
          (سَأَلْتُ) وفي رواية: <قال سألت> أي: إنَّه قال سألت (ابْنَ سِيرِينَ) محمداً (عَنِ) حكم (الْمَرْأَةِ تَرَى الدَّمَ، بَعْدَ قُرْئِهَا) بضم القاف وفتحها ؛ أي: حيضها المعتاد (بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ؟ قَالَ: النِّسَاءُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ) والمعنى: أن ابن سيرين سئل عن امرأة كان لها حيض معتاد، ثمَّ رأت بعد أيام عادتها خمسة أيام أو أقل أو أكثر، فكيف يكون حكم هذه الزيادة؟، فقال ابن سيرين: هن أعلم بذلك، يعني: التمييز بين الدمين راجع إليها، فيكون المرئي في أيام عادتها حيضاً، وما زاد على ذلك استحاضة، فإن لم يكن لها علم بالتمييز يكون حيضها ما تراه إلى أكثر مدة الحيض، وما زاد عليها يكون استحاضة، وليس المراد من قوله: بعد قرئها ؛ أي: طهرها، بقرينة رؤية الدم، كما قاله الكِرماني، بل المراد كما قاله محمود العيني: بعد حيضها المعتاد.
          وقد قال صاحب ((التلويح)) بعد ذكر هذا الأثر عن ابن سيرين: هذا يشهد لمن يقول: القرء الحيض، وهو قول أبي حنيفة.
          وقال السفاقسي: وهو قول ابن سيرين وعطاء وأحد عشر صحابياً والخلفاء الأربعة وابن عباس وابن مسعود ومعاذ وأبي الدرداء / وأنس ♥ ، وهو قول ابن المسيَّب وابن جبير وطاوس والضحاك والنخعي والشعبي والثوري والأوزاعي وإسحاق وأبي عبيد.