نجاح القاري لصحيح البخاري

باب إقبال المحيض وإدباره

          ░19▒ (باب إِقْبَالِ الْمَحِيضِ وَإِدْبَارِهِ) اتفق العلماء على أن إقبال الحيض هو الدفقة من الدم في وقت إمكان الحيض، واختلفوا في إدباره فقيل: يعرف بالجفوف وهو أن يخرج ما تحتشي به جافاً، وقيل: بالقصة البيضاء، وإليه ميل المصنف وسنوضحه.
          وعند أصحابنا الحنفية: علامة إدبار الحيض وانقطاعه الزمان والعادة، فإذا أضلت عادتها تحرت وإن لم يكن لها ظن أخذت بالأقل، ووجه المناسبة بين البابين أظهر من أن يخفى.
          (وَكُنَّ) بصيغة الجمع للمؤنث، وفيه ضمير يرجع إلى النساء، ويُسَمَّى هذا الضمير بالضمير المبهم، وجُوِّز ذلك بشرط أن يُفَسَّر بما بعده به، فليس هو بإضمارٍ قَبْلَ الذِّكْر (نِسَاءٌ) بالرفع على أنه بدل من الضمير / في كنَّ على لغة أكلوني البراغيث، وفائدة ذِكْرِه بعد أن عُلِمَ من لفظ (كن) الإشارةُ إلى التنويع؛ إذ التنويع فيه يدلٌ عليه، والمراد أن ذلك كان من نوعٍ من النساء لا من كُلِّهن، وروي بالنصب على الاختصاص ؛ أي: أعني نساء. لا يقال إنه نكرة، وشرط النصب على الاختصاص أن يكون معرفة ؛ لأنه جاء نكرة كما جاء معرفة، قال الهذلي:
ويأَوى إلى نِسوة عُطَّلٍ                     وشُعْثا مَراضِيعَ مثلَ السَّعالي
          (يَبْعَثْنَ إِلَى عَائِشَةَ) ♦ خبر قوله: كن (بِالدُّرْجَةِ) بضم الدال المهملة وسكون الراء، قاله ابن قُرقُول، وبه ضبطه ابن عبد البر في ((الموطأ))، وقيل: بكسر الدال وفتح الراء، جمع: دُرْج بالضم ثمَّ السكون، وعند الباجي: بفتح الأولين.
          قال ابن قُرقُول: وهي بعيدة عن الصواب، وهي خرقة أو وعاء.
          (فِيهَا الْكُرْسُفُ) بضم الكاف وإسكان الراء وضم السين المهملة، وفي آخره فاء، وهو القطن، كذا قاله أبو عبيد.
          وقال أبو حنيفة الدينوري: (وزعم بعض الرواة أنه يقال له: الكرفس، على القلب، ويجمع على كراسف).
          (فِيهِ الصُّفْرَةُ) الحاصلة من أثر دم الحيض بعد وضع ذلك في الفرج ؛ لاختبار الطهر، وقد زاد مالك: ((من دم الحيضة)) وإنما اختير القطن لبياضه، ولأنه ينشف الرطوبة، فيظهر فيه من آثار الدم ما لا يظهر في غيره.
          (فَتَقُولُ) عائشة ♦ لهن (لاَ تَعْجَلْنَ) بسكون اللام، جمع مؤنث من النهي الحاضر (حَتَّى تَرَيْنَ) بسكون المثناة التحتية، صيغة جمع المؤنث المخاطبة (الْقَصَّةَ) بفتح القاف وتشديد الصاد المهملة (الْبَيْضَاءَ) وفي تفسيرها أقوال:
          قال ابن سيده: القصة والقص: الجص، وقيل: الحجارة من الجص.
          وقال الجوهري: هي لغة حجازية يقال: قصَّص داره ؛ أي: جصصها، ويقال: القصة: القطنة أو الخرقة البيضاء التي تحتشي بها المرأة عند الحيض.
          وقال القزاز: القصة: الجص، وفي ((الغريبين)) و((المغرب)) و((الجامع)): القصة: شيء كالخيط الأبيض يخرج بعد انقطاع الدم كله.
          وفي ((المحيط)) من كتب أصحابنا: القصة: الطين الذي يغسل به الرأس، وهو أبيض يضرب إلى الصفرة، وجاء في الحديث: ((الحائض لا تغتسل حتى ترى القصة البيضاء)) أي: حتى تخرج القطنة البيضاء ؛ أي: حتى تخرج القطنة التي تحشي بها كأنها جصة لا تخالطها صفرة. انتهى، أريد بها التشبيه بالجصة في البياض والنقاء، / وأنث ؛ لأنه ذَهَبَ إلى الطَّائفة كما حكى سيبويه من قولهم: لبنة وعسلة.
          وقال ابن قُرقُول: قد فسر مالك القصة بقوله: (تُرِيدُ) أي: عائشة ♦ (بِذَلِكَ) أي: بقولها: حتى ترين القصة البيضاء (الطُّهْرَ مِنَ الْحَيْضَةِ) وفسر الخطابي بقوله: تريد البياض التام، وقال ابن وَهْبٍ في ((تفسيره)): رأيت القطن الأبيض، كأنه هو، وقال مالك: سألتُ النساء عن القصة البيضاء، فإذا ذلك أمر معلوم عند النساء ترينه عند الطهر، وهذا لأثر ذكره مالك في ((الموطأ)) فقال: عن علقمة بن أبي علقمة، عن أُمِّه مولاة عائشة ♦ أنها قالت: «كان النساء يبعثن إلى عائشة بالدُّرْجة فيها الكُرْسُف فيه الصُّفْرة من دم الحيض يسألنها عن الصلاة فتقول لهن: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء»، وتريد الطهر من الحيضة، واسم أم علقمة: مرجانة، سماها ابن حبان في كتاب ((الثقات)). وقال العجلي: مدنية تابعية ثقة.
          وروى البيهقي أيضاً من حديث ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر، عن فاطمة بنت محمد، وكانت في حجر عمرة، قالت: «أرسلت امرأة من قريش إلى عمرة كرسفة قطن فيها الصفرة، تسألها: إذا لم تر من الحيضة إلا هذا، أطَهُرتْ؟ قالت: لا، حتى ترى البياض خالصاً»، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي، فإن رأت صفرة في زمن الحيض ابتداء فهو حيض عندهم، وقال أبو يوسف: لا حتى يتقدمها، ثمَّ إنه قال الهروي: معناه: أن يخرج ما تحتشي به الحائض نقياً كالقصة كأنه ذهب إلى الجفوف.
          وقال القاضي عياض: وبينهما عند النسائي وأهل المعرفة فرق بيِّن. انتهى.
          قال في ((المصابيح)): وسببه: أن الجفوف عدم، والقصةَ موجود، فالموجود أبلغ دلالة، وكيف لا والرحم قد تجف في أثناء الحيض، وقد تنظف الحائض فيجفُّ رحُمها ساعةً، والقَصَّة لا تكون إلا طهراً. ا هـ.
          وهذا على تفسير القَصَّة بالماء الأبيض الذي يدفعه الرحم عند انقطاع الحيض، فافهم.
          (وَبَلَغَ بنْتُ) وفي رواية: <ابنة> (زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ) كاتب الوحي ☺، وهي أم كلثوم، زوج سالم بن عبد الله بن عمر ☻ ، أو أختها أم سعد (أَنَّ نِسَاءً) من الصحابيات، هكذا وقع في غالب النسخ بدون اللام ؛ أي: نساء الصحابة، وفي بعضها: باللام وبدون اللام أعم وأشمل.
          (يَدْعُونَ) أي: يطلبن، وفي رواية الكُشْميهني: <يدعين> / والرواية الأولى من دَعَوْن، والثانية من دَعَيْن. قال صاحب ((القاموس)): دَعَيْتُ لغة في دعوت، لكن قد تَكَلَّمَ فيها، وقد تقدَّم مثلُها فيما سبق، فتذكر.
          (بِالْمَصَابِيحِ مِنْ) أي: في (جَوْفِ اللَّيْلِ، يَنْظُرْنَ إِلَى الطُّهْرِ) أي: إلى ما يدل على الطهر من القطنة (فَقَالَتْ: مَا كَانَ النِّسَاءُ) أي: نساء الصحابة ♥ (يَصْنَعْنَ هَذَا، وَعَابَتْ عَلَيْهِنَّ) لأن ذلك يقتضي الحرج والتنطع وهو مذموم، وكيف لا، وجوف الليل ليس إلا وقت الاستراحة، قاله ابن بطال وغيره، وقيل: لكون ذلك كان في غير وقت الصلاة وهو جوف الليل. وقال الحافظ العسقلاني: فيه نظر ؛ لأنه وقت العشاء.
          وتعقَّبه محمود العيني: بأنه لم يدل شيء على أنه كان وقت العشاء على أن طلب المصابيح لأمر لا يكون غالباً إلا في شدة الظلمة، وهي لا تكون إلا في جوف الليل، ويحتمل أن يكون العيب ؛ لكون الليل لا يتبين فيه البياض الخالص من غيره، فيحسبن أنهن طهرن وليس كذلك، فيصلين قبل الطهر.
          وهذا الأثر أخرجه مالك في ((الموطأ)) عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمته، عن ابنة زيد بن ثابت: أنه بَلَغَنا، فذَكَرَه، وعمة ابن أبي بكر: عمرة بنت حزم.
          وروى البيهقي: من حديث عباد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرة، عن عائشة ♦: «أنها كانت تنهى النساء أن ينظرن إلى أنفسهن ليلاً في الحيض، وتقول: إنها قد تكون الصفرة والكدرة».
          وعن مالك: لا يعجبني ذلك، ولم يكن للناس مصابيح، وروى ابن القاسم عنه: أنهن كن لا يقمن بالليل.
          وقال صاحب ((التلويح)): يشبه أن يكون ما بلغ ابنة زيد عن النساء كان في أيام الصوم ؛ لينظرن الطهر لنية الصوم ؛ لأن الصلاة لا تحتاج إلى ذلك ؛ لأن وجوبها عليهن إنما يكون بعد طلوع الفجر.
          واختلف الفقهاء في الحائض تطهر قبل طلوع الفجر، ولا تغتسل حتى يطلع الفجر؟، فقال أبو حنيفة: إن كانت أيامها أقل من عشرة، صامت وقضت، وإن كانت عشرة صامت ولم تقض، وقال مالك والشافعي وأحمد: بمنزلة الجنب تغتسل وتصوم، ويجزئها صوم ذلك اليوم، وعن عبد الملك بن الماجِشُون: يومها ذلك يوم فطر، وقال الأوزاعي: تصومه وتقضيه.
          وفي ((القواعد)) لابن رشد: اختلف الفقهاء في علامة الطهر، فرأى قوم أن علامته القصة أو الجفوف، وقال ابن حبيب: سواء كانت المرأة من عادتها أن تطهر بهذه أو بهذه، وفرق قوم فقالوا: / إن كانت ممن لا تراها فطهرها الجفوف.
          وقال ابن حبيب: الحيض أوله دم، ثمَّ يظهر صُفْرة، ثمَّ تَريَّة، ثمَّ كُدْرة، ثمَّ يكون ريقاً كالقَصَّة، ثمَّ ينقطع، فإذا انقطع قبل هذه المنازل وجف أصلاً، فذلك إبراء للرحم.
          وفي ((المصنف)): عن عطاء: الطهر الأبيض الجفوف الذي ليس معه صفرة، وعن أسماء بنت أبي بكر ☻ : وسئلت عن الصفرة اليسيرة، فقالت: اعتزلن الصلاة ما رأين ذلك، حتى لا يرين إلا لبناً خالصاً.