نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: الناس تبع لقريش في هذا الشأن

          3495- 3496- (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) قال: (أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ) هو: ابنُ عبد الرَّحمن الحزامي المديني (عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان (عَنِ الأَعْرَجِ) عبد الرَّحمن بن هرمز (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺: أَنَّ النَّبِيَّ) ويروى: <أن رسول الله> ( صلعم قَالَ: النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي هَذَا الشَّأْنِ، مُسْلِمُهُمْ تَبَعٌ لِمُسْلِمِهِمْ، وَكَافِرُهُمْ تَبَعٌ لِكَافِرِهِمْ) قيل: هو خبر بمعنى الأمر، ويدلُّ عليه قوله صلعم : ((قدِّموا قريشاً ولا تَقَدَّموها)) أخرجه عبد الرَّزَّاق بإسناد صحيحٍ، لكنه مرسل، وله شواهد، وقيل: هو خبر على ظاهره، والمراد بالنَّاس: بعض النَّاس، وهم سائر العرب والعجم من غير قريش، وقوله: ((مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم)) / مصداقه أنَّ العرب كانت تعظم قريشاً في الجاهلية لسكناها الحرم، فلمَّا بُعِثَ النَّبيُّ صلعم ودعا إلى الله توقف غالبُ العرب عن اتباعه، وقالوا: ننظر ما يصنع قومُه فلمَّا فتح النَّبي صلعم مكةَ وأسلمتْ قريش تبعتهم العربُ ودخلوا في دين الله أفواجاً، واستمرت خلافةُ النُّبوة في قريش فصدقَ أنَّ كافرَهم كان تبعاً لكافرهم، وصار مسلمُهم تبعاً لمسلمهم.
          وقال الخطَّابي: يريد بقوله: ((تبع لقريش)) تفضيلَهم على سائر العربِ، وتقديمها في الإمارة، وبقوله: مسلمُهم تبع لمسلِمِهم الأمرَ بطاعتهم؛ أي: من كان مسلماً فليتبعهم ولا يخرج عليهم، وأمَّا معنى كافرهم تبع لكافرهم، فهو إخبارٌ عن حالهم في مُتَقَدَّمِ الزَّمان؛ يعني: أنهم لم يزالوا متبوعين في زمان الكفر، وكانت العرب تُقَدِّمُ قريشاً وتعظِّمُهم وكانت دارُهم مَوْسِماً، ولهم السَّدَانة والسِّقاية والرِّفادة يسقون الحجيج ويطعمونهم، فحازوا به الشَّرف والرئاسة عليهم، ويريد بقوله:
          -(النَّاسُ مَعَادِنُ، خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلاَمِ إِذَا فَقِهُوا) أن من كانت له مأثرةٌ وشرفٌ في الجاهليَّة فأسلم وفقه في الدِّين، فقد أحرزَ مأثرته القديمة وشرفه الثَّابت إلى ما استفاده من المزية بحقِّ الدِّين، ومن لم يسلم فقد هدمَ شرفه وضيَّع قديمه، ثمَّ أخبر بقوله: (تَجِدُونَ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ أَشَدَّ النَّاسِ كَرَاهِيَةً لِهَذَا الشَّأْنِ حَتَّى يَقَعَ فِيهِ) أن خيار النَّاس هم الذين يحذرون الإمارة، ويكرهون الولاية حتَّى يقعوا فيها، وهذا يحتمل وجهين:
          أحدهما: أنَّهم إذا وقعوا فيها عن رغبةٍ وحرصٍ زالت عنهم محاسنُ الأخيار؛ أي: صفة الخيريَّة كقوله صلعم : ((مَنْ وَلِيَ قاضياً فقد ذُبِحَ بغير سكين)).
          والآخر: أنَّ خيار النَّاس هم الذين يكرهون الإمارة حتَّى يقعوا فيها، فإذا وقعوا فيها وتقلَّدوها زال معنى الكراهة، فلم يجز لهم أن يَكْرَهُوها ولم يقوموا بالوَاجبِ من أُمُورها، بل عليهم أن يجتهدوا في القيام بحقِّها فِعْلَ الرَّاغب فيها غير كاره لها، هذا كلام الخطَّابي.
          وقال بعضُهم: معناه أنَّ من لم يكن حريصاً على الإمرة غيرَ راغب فيها إذا حصلتْ له بغير سؤال تزول / عنه الكراهة؛ لما يرى من إعانة الله له عليها، فيأمن على دينه ممَّا كان يخاف عليه منها قبل أن يقعَ فيها ومن ثمةَ أَحَبَّ من أَحَبَّ استمرار الولاية من السَّلف الصالح حتَّى قاتلَ عليها وصرَّح بعضُ من عُزِلَ منهم بأنَّه لم تسره الولاية ولكن ساءه العزل، وقيل: معناه أنَّ العادة جرت بذلك فإنَّ من حَرَصَ على الشَّيء ورغبَ في طلبه قل أن يحصل له ذلك، ومن أعرضَ عن الشَّيء وقلَّتْ رغبتُه فهو يحصل له غالباً، والله تعالى أعلم.
          وقال القاضي عياض: استدلَّ الشَّافعيةُ بهذا الحديث على إمامة الشَّافعي وتقديمه على غيره، ولا حجَّة فيه؛ لأنَّ المراد به هنا الخلفاء. وقال القُرطبي: صَحِبَتِ المُسْتَدِلَّ بهذا غَفْلَةٌ مقارِنَةٌ لِصَمِيْمِ التَّقليد، وتعُقِّب بأن مراد المُسْتَدِلِّ أن القرشية من أسباب الفضل والتَّقدم كما أنَّ من أسباب التَّقديم الورع مثلاً فالمستويان في خصال الفضل إذا تميز أحدُهما بالورع مثلاً كان مقدَّماً على رفيقه، فكذلك القرشية فثبت الاستدلال به على تقدُّم الشَّافعي ومزيته على من ساواه في العِلْم والدِّين لمشاركته في الصِّفتين وتميزه عنه بالقرشية، وهذا واضحٌ.
          قال الحافظُ العسقلاني: ولعلَّ الغفلة والعصبيةَ صَحِبَتِ القرطبيَّ فلله الأمر.
          ومطابقة الحديثين للتَّرجمة ظاهرة. والحديث الأوَّل قد أخرجه مسلم في الفضائل بتمامه، وفي الأدب بقصَّة ذي الوجهين. والحديث الثَّاني أخرجه مسلم في المغازي والفضائل.