نجاح القاري لصحيح البخاري

باب ما يجوز من الاشتراط والثنيا في الإقرار

          ░18▒ (باب مَا يَجُوزُ مِنَ الاِشْتِرَاطِ وَالثُّنْيَا) بضم المثلثة وسكون النون بعدها تحتية مقصورًا؛ أي: الاستثناء (فِي الإِقْرَارِ) سواء كان استثناء قليل من كثير أو بالعكس، فالأوَّل لا خلاف في جوازه عند أهل اللُّغة والفقه والحديث، وحديث الباب يدلُّ على جوازه أيضًا، وفي الثَّاني اختلاف، فذهب الجمهور إلى جوازه أيضًا.
          قال الدَّاودي: إذا قال له: عليَّ ألف إلا تسعمائة وتسعة وتسعين صحَّ ولزمه واحد، كما إذا قال: أنت طالق ثلاثة إلَّا اثنتين؛ لقوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت:14]. هذا وأنت خبير بأنَّ احتجاج الدَّاودي بهذه الآية غير بيِّن؛ لأنَّها لا تثبت إلَّا أحد الاستثنائين كما لا يخفى، وإنَّما الحجَّة في ذلك قوله تعالى: {إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:42] مع قوله تعالى: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:83] فإنَّ أحدهما أكثر من الآخر لا محالة، فإن جعلت المخلصين الأكثر فقد استثناهم، وإن جعلت الغاوين الأكثر فقد استثناهم أيضًا، ولأنَّ الاستثناء إخراج، فإذا جاز إخراج الأقل جاز إخراج الأكثر.
          وذهب بعض المالكيَّة كابن الماجشون إلى فساده، وإليه ذهب ابن قتيبة، وزعم أنَّه مذهب البصريين من أهل اللُّغة، / وإليه ذهب البخاري حيث أدخل هذا الحديث هنا فإنَّ فيه استثناء القليل من الكثير، فافهم.
          والجواز هو مذهب الكوفيِّين، وممَّن حكاه عنهم الفرَّاء، والله أعلم.
          (وَالشُّرُوطِ الَّتِي يَتَعَارَفُهَا النَّاسُ بَيْنَهُمْ) نحو أن يشتري نعلًا أو شراكًا بشرط أن يحذوه البائع أو يشتري أديمًا بشرط أن يخرز له خفًّا، أو يشتري قلنسوة بشرط أن يبطنه البائع، فإنَّ هذه الشُّروط كلها جائزة؛ لأنَّه متعارف متعامل بين النَّاس، وفيه خلاف زفر، وكذا لو اشترى شيئًا وشرط أن يرهنه بالثَّمن رهنًا وسمَّاه، أو يعطيه كفيلًا وسمَّاه، والكفيل حاضر وقَبِلَه. وكذلك الحوالة، جاز استحسانًا، خلافًا لزفر.
          وأمَّا الشُّروط التي لا يتعارفها النَّاس فباطلة؛ نحو ما إذا اشترى حنطة، وشرط على البائع طحنها أو حملانها إلى منزله، أو اشترى دارًا على أن يُسكنها شهرًا، فإنَّ ذلك كله لا يصحُّ؛ لعدم التَّعارف والتَّعامل.
          (وَإِذَا قَالَ: مِائَةٌ إِلاَّ وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ) أشار بهذا إلى أن اختياره جواز استثناء القليل من الكثير، وعدم جواز عكسه، وذكَّر بهذا صورة استثناء القليل من الكثير نحو ما إذا قال لفلان عليَّ مائة درهم مثلًا إلَّا واحدًا أو إلَّا اثنين، فإنَّه يصحُّ ويلزمه في قوله: إلَّا واحدًا تسعة وتسعون، وفي قوله: إلَّا اثنين يلزمه ثمانية وتسعون درهمًا.
          (وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ) هو: عبدُ الله بن عون بن أرطبان البصري، وقد مرَّ في «العلم» [خ¦67] (عَنِ ابْنِ سِيرِينَ) هو: محمَّد بن سيرين، أنَّه (قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِكَرِيِّهِ) بفتح الكاف وكسر الراء وتشديد المثناة التحتية على وزن فعيل، هو المكاري (أَدْخِلْ) أمر من الإدخال، وفي نسخة: <ارحل> من الرَّحل (رِكَابَكَ) منصوب به، والرِّكاب _بكسر الراء_ الإبل التي يسار عليها، والواحدة: راحلة، ولا واحد لها من لفظها (فَإِنْ لَمْ أَرْحَلْ مَعَكَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَلَكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَلَمْ يَخْرُجْ) أي: لم يرحل معه يلزمه مائة درهم عند شريح، وهو معنى قوله: (فَقَالَ شُرَيْحٌ) القاضي المشهور.
          (مَنْ / شَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ طَائِعًا غَيْرَ مُكْرَهٍ) أي: مختارًا غير مكره عليه (فَهْوَ) أي: الشَّرط الذي شرطه (عَلَيْهِ) أي: يلزمه، ووجَّهه بعضهم بأنَّ العادة جرت بأنَّ صاحب الجمال يرسلها إلى المراعي، فإذا اتَّعد مع التَّاجر على يومٍ بعينه فأحضر له الإبل فلم يتهيَّأ للتَّاجر السَّفر أضرَّ ذلك بحال الجمَّال؛ لما يحتاج إليه من العلف، فوقعَ بينهم التَّفارق على مال معيَّن يشترطه التَّاجر على نفسه إذا أَخْلف ليستعين به الجمَّال على العلف. وفي هذا خالف الجمهور شريحًا فقالوا: لا يلزمه شيء؛ لأنه عِدَةٌ.
          وهذا التَّعليق وصله سعيد بن منصور، عن هشيم، عن ابن عون ولفظه: أنَّ رجلًا يكاري من آخر فقال: اخرج يوم الاثنين، فذكر نحوه.
          (وَقَالَ أَيُّوبُ) هو السَّختياني (عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: أَنَّ رَجُلًا بَاعَ طَعَامًا، وَقَالَ: إِنْ لَمْ آتِكَ الأَرْبِعَاءَ) أي: يوم الأربعاء، وأغرب الكرماني حيث قال: يحتمل أن يراد به يوم الأربعاء، أو مكانها على أنَّها جمع الرَّبيع، وهي السَّاقية؛ أي: إن لم آتك في المزارع، وهذا بعيد جدًا، والأوَّل هو الظَّاهر كما اعترف به الكرماني نفسه (فَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بَيْعٌ) وقائل ذلك هو المشتري كما يدلُّ عليه السِّياق (فَلَمْ يَجِئْ، فَقَالَ شُرَيْحٌ لِلْمُشْتَرِي: أَنْتَ أَخْلَفْتَ، فَقَضَى عَلَيْهِ) فهذا الشَّرط جائز أيضًا عند شريح؛ لأنَّه قال للمشتري عند التَّحاكم إليه: أنت أخلفت الميعاد، فقضى عليه برفع البيع، وهذا أيضًا هو مذهب أبي حنيفة وأحمد وإسحاق. وقال مالك والشَّافعي وآخرون: يصحُّ البيع ويبطل الشَّرط.
          وهذا التَّعليق وصله أيضًا سعيد بن منصور، عن سفيان، عن أيُّوب، عن ابن سيرين فذكره.