نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: إن خياركم أحسنكم قضاءً

          2305- (حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ) بضم النون، الفضل بن دُكَين، قال: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) أي: الثَّوري (عَنْ سَلَمَةَ) هو: ابن كُهَيل، بضم الكاف وفتح الهاء (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) بن عبد الرَّحمن.
          (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺) أنَّه (قَالَ: كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى النَّبِيِّ صلعم سِنٌّ مِنَ الإِبِلِ) السِّنُّ _بكسر السين المهملة وتشديد النون_ أي: ذات سن، وهو أحدُ أسنان الإبل وأسنانها معروفةٌ في كتب اللغة إلى عشر سنين.
          ففي الفصل الأوَّل حِوارٌ (1) ثمَّ الفَصيل (2) إذا فُصِلَ، فإذا دخل في السَّنة الثَّانية فهو ابن مَخاض، فإذا دخل في الثَّالثة فهو ابن لَبون أو بنت لَبون، فإذا دخل في الرَّابعة فهو حَقٌّ وحَقَّة، فإذا دخل في الخامسة فهو جَزَع أو جَزَعَة، فإذا دخل في السَّادسة فهو ثَنِيٌّ وثَنِيَّة، فإذا دخل في السَّابعة فهو رُباعيٌّ ورُباعيَّة، فإذا دخل في الثَّامنة فهو سَدَس وسَدِيس، فإذا دخل في التَّاسعة فهو باذِل، فإذا دخل في العاشرة فهو مخلف.
          ثمَّ ليس له اسم بعد ذلك، ولكن يُقال: باذل عام وباذل عامين، ومخلف عام ومخلف عامين، ومخلف ثلاثة أعوام إلى خمس سنين، حكاه أبو داود. وفي «سننه»: عن النَّضر بن شُمَيل وأبي عُبيد والرِّياشيِّ.
          (فَجَاءَهُ يَتَقَاضَاهُ) يعني: يطلب أن يقضيه (فَقَالَ: أَعْطُوهُ فَطَلَبُوا سِنَّهُ فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ إِلاَّ سِنّاً فَوْقَهَا، فَقَالَ) صلعم (أَعْطُوهُ، فَقَالَ: أَوْفَيْتَنِي أَوْفَى اللَّهُ بِكَ) / يقال: أوفاه حقَّه إذا أعطاه وافياً، وكان القياس أن يقول: أوفاك الله في مقابلته، ولكنَّه زاد الباء في المفعول توكيداً.
          (قَالَ النَّبِيُّ صلعم : إِنَّ خِيَارَكُمْ) يحتمل أن يكون مفرداً بمعنى المختار، وأن يكون جمعاً (أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً) خبر لقوله: ((خياركم)) والأصل التَّطابق بين المبتدأ والخبر في الإفراد وغيره، ولكن إذا كان الخيار بمعنى المختار، فالمطابقة حاصلةٌ وإذا كان جمعاً فأفعل التَّفضيل المضاف المقصود به الزِّيادة يجوز فيه الإفراد والمطابقة لمن هو له.
          وروي أيضاً: <أحاسنكم>، وهو جمع أحسن، وورد: <محاسنكم> بالميم، قال القاضي عِياض: جمع مَحسن _بفتح الميم_ كمطلع ومطالع، والأوَّل أكثر.
          وفي «المطالع»: ويحتمل أن يكون سمَّاهم بالصفة؛ أي: ذوو المحاسن، وقوله: ((قضاء)) نصب على التَّمييز.
          وفي الحديث: توكيل الحاضر الصَّحيح على قول عامَّة الفقهاء، وهو قول ابن أبي ليلى ومالك والشَّافعي وأبي يوسف ومحمَّد، إلَّا أنَّ مالكاً قال: يجوز ذلك وإن لم يرض خصمه إذا لم يكن الوكيل عدواً للخصم.
          وفي «التوضيح»: وهذا الحديث حجَّة على أبي حنيفة في قوله أنَّه لا يجوز توكيل الحاضر بالبلد الصَّحيح البدن إلَّا برضا خصمه أو عذر مرضٍ أو سفر ثلاثة أيَّام.
          وهذا الحديث خلاف قوله؛ لأنَّه صلعم أمر أصحابه أن يقضوا عنه السن التي كانت عليه، وذلك توكيلٌ منه صلعم لهم على ذلك، ولم يكن صلعم غائباً ولا مريضاً ولا مسافراً. انتهى.
          وقال العينيُّ: ليس الحديث بحجَّةٍ عليه؛ لأنَّه لا ينفي الجواز، ولكن يقول: لا يلزم، يعني: لا يسقط حقُّ الخصم في طلب الحضور والدَّعوى والجواب بنفسه، وهو قول ابن أبي ليلى في الأصحِّ، والمرأة كالرَّجل بكراً كانت أو ثيباً، واستحسن بعض أصحابنا أنَّها توكل إذا كانت غير برزة.
          وفيه: جواز الأخذ بالدَّين ولا يختلف العلماء في جوازه عند الحاجة (3)، وفيه: حجَّة مَنْ قال بجواز استقراض الحيوان، وهو قول الأَوْزاعيِّ والليث ومالك والشَّافعي وأحمد وإسحاق.
          وقال القاضي: أجاز جمهور العلماء استسلاف سائر / الأشياء من الحيوان والعروض واستُثِني من ذلك الحيوان (4) ؛ لأنَّه قد يردُّها بنفسها، فحينئذٍ تكون عاريَّة، وأجاز ذلك بعض أصحابنا بشرط أن يردَّ غيرها. وأجاز استقراض الجواري الطَّبريُّ والمُزَني والأَوْزاعي واللَّيث والشَّافعي بجواز استقراض الحيوان كلِّه إلَّا الإماء.
          وعند مالكٍ إنِ استقرض أمة ولم يطأها ردَّها بعينها وإن حملت ردَّها بعد الولادة وقيمة ولدها إن وُلِدَ حيًّا وما نقصتها الولادة، وإن ماتت لزمه مثلها، فإن لم يوجد مثلها فقيمتها.
          وقال ابن قدامة: أمَّا بنو آدم فقال أحمد: أكره قرضهم فيحتمل كراهة تنزيهٍ ويصحُّ قرضهم، وهو قول ابن جُرَيج والمُزَني. ويحتمل أنَّه كراهة تحريمٍ فلا يصحُّ قرضهم، اختاره القاضي.
          وفي «شرح المهذَّب»: استقراض الحيوان فيه ثلاثة مذاهب:
          مذهب الشَّافعي ومالك وجماهير العلماء جوازه إلَّا الجارية لمن ملك وطأها فإنَّه لا يجوز، ويجوز إقراضها لمن لا يجوز له وطؤها كمحرمها وللمرأة.
          الثَّاني: مذهب ابن جرير وداود يجوز قرض الجارية وسائر الحيوان لكلِّ أحدٍ.
          الثَّالث: مذهب أبي حنيفة والكوفيين والثَّوري والحسن بن صالح.
          ورُوِيَ عن ابن مسعودٍ وحذيفة وعبد الرَّحمن بن سَمُرة ♥ منعه، وقد مرَّ الجواب عمَّا قالوا من جواز قرض الحيوان في كتاب «البيوع»، في باب «بيع العبيد والحيوان بالحيوان نسيئة» [خ¦2228] [خ¦34/108-3476].
          وفي الحديث أيضاً ما يدلُّ على أنَّ المقرض إذا أعطاه المستقرض أفضل ممَّا أقترض جنساً أو كيلاً أو وزناً أنَّ ذلك معروف، وأنَّه يطيب له أخذه منه؛ لأنَّه صلعم أثنى فيه على من أحسن القضاء وأطلق ذلك ولم يقيِّده.
          قال العينيُّ: هذا عند جماعة العلماء إذا لم يكن بغير شرطٍ منهما حين السَّلف، وقد أجمع المسلمون نقلاً عن النَّبي صلعم أنَّ اشتراط الزِّيادة في السَّلف ربا.
          وفيه: دليلٌ على أنَّ للإمام أن يستلفَ للمساكين على الصَّدقات ولسائر المسلمين على بيت المال؛ لأنَّه كالوصيِّ لجميعهم والوكيلِ.
          ومعلومٌ أنَّه صلعم لم يستلف ذلك لنفسه؛ لأنَّه قضاه من إبل الصَّدقة، / ومعلوم أنَّ الصَّدقة محرَّمة عليه لا يحلُّ له أكلها ولا الانتفاع بها.
          فإن قيل: فلم أعطى من أموالهم أكثر ممَّا استقرض لهم.
          فالجواب: أنَّه جائزٌ للإمام إذا استقرض للمساكين أن يردَّ من مالهم أكثر ممَّا أخذ على وجه النَّظر والمصلحة إذا كان على غير شرطٍ.
          فإن قيل: إنَّ المُستقرَض منه غنيٌّ والصَّدقة لا تحلُّ لغني.
          فالجواب: أنَّه يحتمل أن يكون المُستقرَض منه قد ذهبت إبله بنوعٍ من جوائح الدُّنيا، فكان في وقت ما أخذ فقيراً تحلُّ له الزَّكاة، فأعطاه النَّبي صلعم خيراً من بعيره بمقدار حاجته، فكان في ذلك وضع الصَّدقة في موضعها وحسن القضاء. ويحتمل أن يكون غازياً ممَّن تحلُّ له الصَّدقة من الأغنياء. وقيل: يحتمل أنَّه كان اقترض لنفسه فلمَّا جاءت إبل الصَّدقة اشترى منها بعيراً ممَّن استحقَّه، فملكه بثمنه وأوفاه متبرِّعاً بالزِّيادة من ماله، يدلُّ عليه ما رواه مسلم: ((اشتروا له بعيراً)). وقيل: يحمل أنَّه صلعم كان اقترضه لبعض نوائب المسلمين لا أنَّه اقترضه لحاجة نفسه، وعبَّر الرَّاوي عن ذلك مجازاً، إذ كان هو الآمر.
          وأمَّا قول من قال: كان استسلافه ذلك قبل أن تحرمَ عليه الصَّدقة ففاسدٌ؛ لأنَّه صلعم لم تزل محرَّمة عليه الصَّدقة، قال القرطبيُّ: وذلك من خصائصه ومن علامات نبوَّته في الكتب القديمة بدليل قصَّة سلمان ☺.
          ومطابقة الحديث للتَّرجمة: في وكالة الحاضر في قوله: «أعطوه»، وأمَّا وكالة الغائب فتستفاد منه بطريق الأولى، قاله الحافظُ العَسْقَلانيُّ. وتعقَّبه العَينيُّ: بأنَّه ليس في الحديث شيءٌ يدلُّ على حكم الغائب فضلاً عن الأولوية. انتهى وفيه تأمُّل لا يخفى.
          وقال الِكَرْمانيُّ: التَّرجمة تستفاد من لفظ: «أعطوه»، وهو وإن كان خطاباً للحاضر، لكنَّه بحسب العرف وقرائن الأحوال، شاملٌ لكلِّ واحدٍ من وكلاء رسول الله صلعم غيباً وحضوراً.
          ورجال إسناد الحديث ما بين كوفيٍّ ومدنيٍّ، وفيه: رواية التَّابعي عن التَّابعي عن الصَّحابي.
          وقد أخرج متنه المؤلِّف في «الاستقراض» [خ¦2393] و«الوكالة» [خ¦2306] و«الهبة» [خ¦2606]، وأخرجه مسلم في «البيوع» وكذا التِّرمذي والنَّسائي، وأخرجه ابن ماجه في «الأحكام»، والله تعالى أعلم. /


[1] في هامش الأصل: والحوار بالضم وقد تكسر، ولد الناقة ساعة تضعه أو إلى أن يفصل عن أمه. قاموس.
[2] في هامش الأصل: الفصيل: ولد الناقة إذا فصل عن أمه. كذا في «القاموس». منه.
[3] من قوله: ((وفيه جواز... إلى قوله: الحاجة)): ليست في (خ).
[4] في هامش الأصل: في نسخة: الجواري كما في إكمال المعلم.