نجاح القاري لصحيح البخاري

باب ما جاء في قول الله تعالى {واتقوا فتنةً لا تصيبن الذين ظلموا}

          ░1▒ (بابُ مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]) أي: اتَّقوا ذنباً يعمكم أثره، كإقرار المنكر بين أظهركم، والمداهنة في الأمر بالمعروف، وافتراق الكلمة، وظهور البدع على أنَّ قوله: {لَا تُصِيبَنَّ} إمَّا جواب الأمر على معنى: إن أصابتكُم لا تصيب الظَّالمين منكم خاصَّةً. وفيه: أنَّ جواب الشَّرط / متردِّدٌ فلا يليق به النّون المؤكّدة، لكنَّه لمَّا تضمَّن معنى النَّهي ساغ فيه كقوله تعالى: {ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ} [النمل:18] وإمَّا صفة لفتنة ولا للنَّفي، وفيه شذوذٌ؛ لأنَّ النُّون لا تدخل النَّفي في غير القسم والنَّهي على إرادة القول كقوله:
حَتَّى إذَا جَنَّ الظَّلَامُ وَاخْتَلَطْ                     جَاوؤُا بِمَذْقٍ هَلْ رَأَيْتَ الذِّئْبَ قَطْ
          وإمَّا جوابُ قسمٍ محذوف كقراءة من قرأ: ▬لَتُصِيبَنَّ↨ وإن اختلفا في المعنى، ويحتمل أن يكون نهياً بعد الأمر باتِّقاء الذَّنب عن التَّعرّض للظُّلم فإنَّ وباله يصيب الظَّالم خاصَّةً ويعود عليه، ومن في ((منكم)) على الوجه الأوَّل للتَّبعيض، وعلى الأخيرين للتَّبيين، وفائدته التَّنبيه على أنَّ الظُّلم منكم أقبحُ من غيركم.
          ذكر أحمد في «تفسيره» وهو ما عزاه إليه ابنُ الجوزيّ في «حدائقه»، وأخرجه البزَّار أيضاً من طريق مطرّف بن عبد الله بن الشِّخّير قال: قلنا للزُّبير: يعني في قصَّة الجمل: يا أبا عبد الله، ما جاء بكم، ضيعتم الخليفة الَّذي قُتل، يعني: عثمان ☺، بالمدينة ثمَّ جئتم تطلبون بدمه، يعني: بالبصرة، فقال الزُّبير: إنَّا قرأنا على عهد رسول الله صلعم : {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25] لم نكن نحسب أنا أهلها حتَّى وقعت منَّا حيث وقعت.
          وعند أحمد من حديث عَدِيّ بن عُميرة: سمعت رسول الله صلعم يقول: ((إنَّ الله لا يعذِّب العامَّة بعمل الخاصَّة حتَّى يروا المنكر بين ظهرانيهم، وهم قادرون على أنَّ ينكروه فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذّب الله الخاصَّة والعامَّة)).
          وأخرج الطَّبريّ من طريق الحسن البصريّ قال: قال الزُّبير: لقد خُوّفّنا بهذه الآية ونحن مع رسول الله صلعم وما ظننّا أنَّا خصصنا بها، وأخرجه النَّسائيّ من هذا الوجه نحوه، وله طرقٌ أخرى عن الزُّبير عند الطَّبريّ وغيره، ومن جملة الطُّرق ما أخرجه أحمد قال: حدَّثنا أسود:حدثنا جرير: سمعت الحسن قال: قال الزُّبير بن العوام ☺ نزلت هذه الآية ونحن متوافرون مع رسول الله صلعم فجعلنا نقول: ما هذه الفتنة / وما نشعر أنَّها تقع حيث وقعت، وعنه أنَّه قال يوم الجمل: لمّا لقي ما لقي ما توهمت أنَّ هذه الآية نزلت فينا أصحابَ محمَّد اليوم.
          وقال السّدِّيّ: فيما أخرجه الطَّبريّ عنه قال: نزلت في أهل بدرٍ خاصَّة فأصابتهم يوم الجمل، وعند ابن أبي شيبة نحوه، وعند الطَّبريّ من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ قال: أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم وأنذرهم بالعذاب فيعمُّهم العذاب، وقيل: إنَّها تعمُّ الظَّالم وغيره.
          وقال المبرّد: إنَّها نهيٌ بعد نهي لأمر الفتنة، والمعنى في النَّهي للظَّالمين أن لا يقربوا الظُّلم، والله تعالى أعلم.
          (وَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلعم ) أي: وباب ما كان صلعم (يُحَذِّرُ) بتشديد الذَّال المعجمة (مِنَ الْفِتَنِ) يشير بهذا إلى ما تضمَّنه أحاديث الباب من الوعيد على التَّبديل والإحداث، فإنَّ الفتن غالباً إنَّما تنشأ عن ذلك.