نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما}

          ░13▒ (باب: قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]) كذا أطلق في الآية اليد، وأجمعوا على أنَّ المراد اليمين إن كانت موجودةً بدليل قراءة عبد الله: (▬والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما↨) رواه التِّرمذي.
          واختُلِفَ فيما لو قُطِعَتِ الشِّمال عمدًا أو خطأً هل تجزئ، وقُدِّمَ السَّارقُ على السَّارقة، وقُدِّمتِ الزَّانيةُ على الزَّاني لوجودِ السَّرقة في الذُّكور غالبًا، ولأنَّ السَّرقةَ من الجراءةِ، وهي في الرِّجال أكثر، ولأنَّ داعيةَ الزِّنى في النِّساء أكثر، ولأنَّ الأنثى سببٌ في وقوع الزِّنى، إذ لا يتأتَّى غالبًا إلَّا بطواعيتها.
          وقوله: ((أيديهما)) بصيغة الجَمْعِ مع التثنية إشارةٌ إلى أنَّ المرادَ جنس السَّارق، / فلوحظ فيه المعنى، فجُمِعَ في التَّثنية بالنَّظر إلى الجنسين المتلفظ بهما، وإنَّما ترجم الباب بهذه الآية الكريمة؛ لبيان أن قَطْعَ يد السَّارق ثبت بالقرآن وبالأحاديث أيضًا.
          وقال القرطبيُّ أبو عبد الله: أوَّلُ من حَكَمَ بِقَطْع السَّارق في الجاهليَّة الوليد بن المغيرة، وأمر الله بقطعه في الإسلام، فكان أوَّلَ سارقٍ قَطَعَه رسولُ الله صلعم في الإسلام: الحبارُ بن عدي بن نوفل بن عبد منافٍ، ومن النِّساء: مرَّة بنت سفيان بن عبد الأسد من بني مخزوم.
          وقطع أبو بكرٍ ☺ يدَ الفتى الَّذي سرق العقد، وقطع عمر ☺ يد ابن سمرة أخي عبد الرَّحمن بن سمرة، ثمَّ السَّرِقة: بفتح السين وكسر الراء ويجوز إسكانها، ويجوز: كسر أوله وسكون ثانيه، وهي في اللُّغة: أَخْذُ الشَّيء خفيةً بغير إذن صاحبه مالًا كان أو غيره، وفي الشَّرع: هي أَخْذُ مُكَلَّفٍ خفيةً قدرُ عشرة دراهم مَضْرُوبَةٍ مُحْرَزَةٍ بمكانٍ أو حافظ.
          وفي المقدار خلافٌ سيجيءُ، وباشتراط الحِرْزِ ليس على المختلسِ والمنتهبِ والجاحدِ لنحو وديعةٍ قَطْعٌ، وعند التِّرمذي ممَّا صحَّحه: ((ليس على المختلس والمنتهبِ والخائن قطعٌ)).
          قال ابن بطَّال: الحرز مستفادٌ من معنى السَّرقة؛ يعني: في اللغة، ويقال لسارق الإبل: الخارب، بخاء معجمة، ولسارق المكيال: مطفِّف، وللسَّارق في الميزان مُخَسِّر، وفي أشياء أُخر: سارق، ذكرها ابن خالويه ومن تبعَهُ.
          قال المازريُّ: صانَ الله الأموالَ بإيجابِ قطعِ سارقها، وخصَّ السَّرقة لقلَّة ما عداها بالنِّسبة إليها من الانتهابِ والغصب ونحوهما، ولسهولةِ إقامة البيِّنة على ما عدا السَّرقة بخلافها، وشدَّد العقوبةَ فيها؛ لتكون أبلغ في الزَّجر، ولم يجعل ديةَ الجنايةِ على العضو المقطوع منها بقدر ما يقطعُ فيه حمايةً لليد لما هانت، وفي ذلك إشارةٌ إلى الشُّبهة الَّتي نُسِبَتْ إلى أبي العلاء المعري في قوله:
يَدٌ بِخَمْسِ مِئِينَ عَسْجَدٍ وديَتُ                     مَا بِالُهَا قُطعَتْ فِي رُبْع دِينَارِ
          فأجابه القاضي عبد الوهاب المالكي بقوله:
صِيَانَةُ الْعُضْوِ أَغْلَاهَا وَأَرْخَصَهَا                     صِيَانَةُ الْمَالِ فَافْهَمْ حِكْمَةَ الْبَارِي
          وبيان ذلك: أنَّ الدِّية لو كانت ربع دينارٍ لكثرت الجنايات على الأيدي، ولو كان نصابُ القطع خمسمئة دينارٍ؛ لكثرت الجنايات على الأموال، فظهرت / الحِكْمَةُ في الجانبين، وكان في ذلك صيانةٌ من الطَّرفين.
          وقد عَسِرَ فَهْمُ المعنى المتقدِّم ذِكْرُه في الفرق بين السَّرقة والنَّهب ونحوه على بعض منكري القياس، فقال: القطعُ في السَّرقة دون الغصب وغيرِه غيرُ معقولِ المعنى، فإنَّ الغصبَ أكثر هتكًا للحرمة من السَّرقة، فدلَّ على عدم اعتبار القياس؛ لأنَّه إذا لم يُعْملْ به في الأعلى، فلا يعملُ به في المساوي.
          وجوابه: أنَّ الأدلَّة على العمل بالقياس أشهر من أن يُتَكَلَّف لإيرادها، فليُتَأَمَّل.
          (وَفِي كَمْ يُقْطَعُ) أي: في مقدار كم من المال يقطع، وفيه خلافٌ كثير؛ فقالت الظَّاهرية: يُقْطَعُ في القليلِ والكثير، ولا نصابَ له، وعند الحنفيَّة: عشرة دراهم، وعند الشَّافعي: ربع دينار، وعند مالك: قدر ثلاثة دراهم.
          وروى ابنُ أبي شيبة عن أبي هريرة وعن أبي سعيدٍ ☻ أنَّهما قالا: لا تُقْطَعُ اليد إلَّا في أربعة دراهم فصاعدًا، وقَطَعَ ابنُ الزُّبير في نَعْلَين.
          وقال ابن مَعمر: كانوا يتسارقون السِّياط، فقال عثمان ☺: لئن عُدتم لأقطعنَّ فيه، وكان عروة بن الزُّبير والزُّهري وسليمان بن يسار، يقولون: ثمنُ المِجَنِّ خمسةُ دراهم.
          وحكى أبو عمر في «استذكاره»: عن عثمان البتي: يقطع في دِرْهَم، وروى منصورٌ عن الحَسَنِ: أنَّه كان لا يؤقت في السَّرقة شيئًا، ويتلو: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة:38]، وفي رواية قتادة عنه: أُجْمِعَ على دِرْهَمَين. وذُكِرَ عن النَّخَعي: أربعون درهمًا، وعن الزُّبير أنَّه قَطَعَ في نِصْفِ دِرْهَمٍ، وعن زياد: في درهمين، وعن أبي سعيدٍ: في أربعة، وقيل: يقطع في كلِّ ماله قيمة قلَّ أو كَثُر.
          وتفصيل المذاهب الأربعة: أنَّ عند الشَّافعية يقطع في ربع دينار خالصًا أو قيمته، وعند المالكيَّة: يقطع بسرقة طفل، وحِرْزُ مِثْلِه: بأن يكون في دار أهله، أو بربع دينارٍ ذهبًا فصاعدًا، أو ثلاثة دراهم فضَّة فأكثر، فإن نَقَصَا فلا قَطْعَ. وعند الحنفيَّة: عشرة دراهم، أو ما قيمته عشرة دراهم مضروبة، وقالت الحنابلة: يُقْطَعُ بِجَحْدِ عاريَّةٍ وسَرِقَةِ مِلْحٍ وترابٍ وأحجارٍ ولبن وكلأ وسرجين / طاهرٍ وثَلْجٍ وصيدٍ لا بسرقة سرجين نجس، ويُقْطَعُ طَراَّرٌ، وهو الَّذي يَبُطُّ الجَيْبَ وغيرَه ويأخذ منه أو بَعْدَ سُقُوطِه نِصَابًا وبسرقة مجنون ونائمٍ وأعمى لا يُمَيز ولو كان كبيرًا.
          (وَقَطَعَ عَلِيٌّ مِنَ الْكَفِّ) وفي نسخة: <وقطع علي الكف> بدون كلمة من أشار بهذا إلى الاختلاف في محلِّ القطع، وقد اختلف في حقيقة اليد، فقيل: أوَّلها من المنكب، وقيل: من المرفق، وقيل: من الكوع، وقيل: من أصول الأصابع.
          فحجَّةُ الأوَّل: أنَّ العربَ تُطْلِقُ اليدَ على ذلك، وحجَّةُ الثَّاني: آية الوضوء ففيها: {أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6]، وحجَّة الثَّالث: آية التَّيمم ففي القرآن: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة:6]. وبيَّنت السُّنة كما تقدَّم في بابه أنَّه صلعم مَسَحَ على كفَّيه فقط، وأخذ بظاهر الأوَّل بعض الخوارج، ونُقِلَ عن سعيد بن المسيَّب واستنكره جماعةٌ، والثَّاني لا يعلم من قال به في السَّرقة، والثَّالث قول العامة. ونقل بعضُهم فيه الإجماعَ، والرَّابع نُقِلَ عن عليٍّ ☺ ورُدَّ بأنَّه لا يُسَمَّى مقطوعَ اليد لغةً ولا عرفًا، بل مقطوعَ الأصابع، وبحَسَبِ هذا الاختلاف، وَقَعَ الخُلْفُ في محلِّ القطع، فقال بالأول الخوارج وهم محجوجون بإجماع السَّلف على خلافِ قولِهم.
          وألزم ابنُ حزم الحنفيَّةَ بأن يقولوا بالقطع من المرفق قياسًا على الوضوء، وكذا التَّيمم عندهم، قال: وهو أولى من قياسهم قدرَ المهر على نصاب السَّرقة. ونَقَلَه القاضي عياضٌ قَولًا شاذًّا، وحجَّةُ الجمهور الأخذُ بأقلِّ ما يُطلق عليه الاسم؛ لأنَّ اليدَ قبل السَّرقة كانت محترمةً، فلمَّا جاء النَّص بقطع اليد، وكانت تُطلق على هذه المعاني وجبَ أن لا يُتْرَكَ المتيقَّنُ، وهو تحريمها إلَّا بمتيقَّن، وهو القطعُ من الكَفِّ.
          وأمَّا الأثر عن عليٍّ ☺، فوَصَلَه ابنُ أبي شيبة من مرسل رجاء بن حيوة: «أنَّ النَّبي صلعم قطع من المفصل»، وأورده أبو الشَّيخ في كتاب «حدِّ السَّرقة» من وجهٍ آخر عن رجاء، عن عدي رُفَعَه مثله، ومن طريق وكيع، عن سفيان، عن أبي الزُّبير، عن جابرٍ رَفَعَه مثله، وأخرج سعيد بن منصور، عن حمَّاد بن زيد، عن عَمرو بن دينار / قال: «كان عمر ☺ يقطعُ من المفصل، وعليٌّ ☺ يقطعُ من مشط القدم».
          وورى ابنُ أبي شيبة عن وكيعٍ، عن سمُرة بن معبد أبي عبد الرَّحمن قال: «رأيتُ أبا خبرة مقطوعًا من المفصل، فقلت: من قطعك؟ قال: الرَّجل الصَّالح علي ☺، أَمَا إنَّه لم يظلمْني». وذَكَرَ الشَّافعيُّ في كتاب «الاختلاف»: أنَّ عليًّا ☺ كان يقطعُ من يد السَّارق الخنصر والبنصر والوسطى خاصَّة، ويقول: أستحيي من الله أن أترُكَه بلا عَمَلٍ.
          قال الحافظ العسقلاني: وهذا يحتمل أن يكون بَقِيَ الإبهامُ والسَّبابةُ وقَطَعَ الكفَّ والأصابعَ الثَّلاثةَ، ويحتمل أن يكون بقيَ الكفُّ أيضًا، والأوَّل أليقُ؛ لما نقل البخاري أنَّه قطع من الكفِّ، وعند الدَّارقطني عن عَمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه: «أنَّ النَّبي صلعم أمر بقطعِ السَّارق الَّذي سرق رداءَ صفوان من المفصل»؛ أي: مفصل الكوع.
          قال ابن الرِّفعة: وادَّعى ابن الماوردي: أنَّه فِعْلٌ مُجْمَعٌ عليه، والمعنى فيه: أنَّ البطشَ بالكفِّ، وما زاد من الذِّراع تابعٌ، وكذا تجب في الكفِّ دية اليد، وحكى ابن التِّين عن بعضهم: قطع اليد من الإبط، وهو بعيدٌ عجيب.
          (وَقَالَ قَتَادَةُ فِي امْرَأَةٍ سَرَقَتْ فَقُطِعَتْ شِمَالُهَا: لَيْسَ إِلاَّ ذَلِكَ) أي: فلا يَقْطَع بعد ذلك يَمِيْنَها، وصله أحمدُ في «تاريخه» عن محمَّد بن الحسن الواسطي، عن عوفٍ الأعرابيِّ عنه، هكذا قاله مغلطاي في «شرحه». وقد أخرجه عبد الرَّزاق، عن مَعمر، عن قتادة، فذكر مثل قول الشَّعبي: لا يُزَادُ على ذلك، قَدْ أُقِيْمَ عليه الحدُّ، وكان ساق عن الشَّعبي أنَّه سُئل عن سارقٍ قدم ليقطع، فقدم شماله فقطعت فقال: لا يُزاد على ذلك، وأشار المصنِّف بذِكْرِه إلى أنَّ الأصلَ: أنَّ أوَّل شيءٍ يقطع من السَّارق اليد اليمنى، وهو قول الجمهور، وقد قرأ ابن مسعودٍ ☺: (▬فاقطعوا أيمانهما↨)، وأخرج سعيدُ بن منصور بسندٍ صحيحٍ عن إبراهيم قال: هي قراءتنا؛ يعني: أصحاب ابن مسعودٍ، ونقل فيه القاضي عياض الإجماع، والقراءةُ الشَّاذة كخبر الواحد في الاحتجاج بها، وقد شذَّ من قال: إذا قطع / الشِّمال أجزأتْ، كما هو ظاهر النَّقل عن قتادة، وبه قال ابنُ الماجشون، وإذا تعمَّد القاطعُ قَطْعَ شمالِه وَجَبَ القصاصُ على القاطع.
          وقال مالكٌ: إن كان عَمْدًا وجبَ القصاص على القاطعِ، ووجبَ قطع اليمين، وإن كان خطأً وجبت الدِّية، ويجزئُ عن السَّارق، وكذا قال أبو حنيفة إذا غلطَ القاطع، فقطعَ اليسرى أنَّه يجزئ عن قطع اليمين، ولا إعادة عليه، وعن الشَّافعي وأحمد: على القاطع المخطئ الفدية، وفي وجوبِ إعادة القطع قولان عند الشَّافعي وروايتان عند أحمد.